وقف رجل أمام شباك صرف النقود في البنك ليسحب مبلغًا من رصيده، فلما طلب منه موظف البنك أن يوقع على إذن استلام المبلغ، اعتذر له الرجل بأنه لا يكتب ولا يقرأ، وطلب منه أن يوقع ببصمتهِ!، فرد موظف الشباك مندهشًا: كل هذا الرصيد الضخم من الأموال ولا تعرف أن تقرأ أو تكتب؟!
فأجابه الرجل مبتسمًا: لو كنت أعرف أن أقرأ أو أكتب لَمَا كان هذا الرصيد الضخم.
لم أعرف الرجل في فقرهِ ولكني رأيته مرة واحدة حينما كان قد أصبح من كبار أغنياء مصر؛ وقصة الرجل أنه تقدم بطلب إلى كنيسة ما ليعمل بها كفرّاش، ولما سُئِل إذا كان يجيد القراءة والكتابة، أجابهم بالنفي فرفضوا تعيينه فرّاشًا بالكنيسة، فذهب الرجل يجمع الحديد الخردة من البيوت حتى أصبح فيما بعد تاجرًا كبيرًا.
القصة الحقيقية التي ذكرتها غُفلاً من الأسماء، تكررت في حياة الكثير من المشاهير، ويتكرر معها أيضًا قصص رجال الأعمال الذين أفلسوا وبدأوا من الصفر، بينما على الجانب الآخر فإن كثرة أُخر من البشر يندبون حظهم أنهم صاروا تُعساء لأنهم ولدوا ونشأوا في أُسرٍ فقيرةٌ ومنعدمةٌ، بينما يرى آخرون أن سبب تعاستهم هو قسوة التربية، أو الشِجار الدائم بين والديهم، أو أنهم نشأوا في أُسر مفككة تحطمت بالطلاق أو كَسَرها الموت واليُتم، وغير ذلك طابور طويل من الأمور الأُخرى التي يراها البعض سببًا في تعاستهم وفقرهم.
على الجانب الآخر فإن البعض يرى أن السبب الأساسي في تعاستهم هو الله نفسه، إذ قد كَتَبَ على جبينهم التعاسة، وأنهم فعليًا ليسوا تُعساء لأسباب وظروف ما، ولكنهم متعوسون بسبب إرادة الله وحُكمِهِ عليهم.
وصَوَّرَ الشاعر ببلاغة قديرة فكرة المتعوس في هذه الأبيات الشعرية:
إنّ حظّي كدقيقٍ … فوقَ شوكٍ نثروهُ
ثمّ قالوا لحُفاةٍ … يومَ ريحٍ اجمعوهُ
صَعُبَ الأمرُ عَليهمْ … قلتُ يا قومِ اتركوهُ
إنَّ مَن أشقاهُ ربِّي … كيفَ أنتم تُسعِدوهُ؟
قيل أن المتعوس سأل يومًا شخصًا تعيسًا: ما ذنبي حتى أتعسني الله بهذه الظروف التي تسببت في تعاستي؟!
فأجابه التعيس: الله لم يُتعس أحدًا؛ ولكن عقلك هو سبب تعاستك،
فرد المتعوس على التعيس: فلماذا إذًا لم تُعمل أنت عقلك لتخرج به من تعاستك.
القصة التي ذكرتها كعينة لغيرها في رأس مقالي، تُقدم نموذجًا عمليًا للإجابة على اعتراض المتعوس (بإرادة الله)!، وبين التعيس الذي يعرف بعقله ما هو سبب تعاسته؛ والإجابة الحاسمة على كليهما هي أن سبب التعاسة هو غياب إرادة التغيير في حياة الإنسان حتى يُغير واقعه ويَخرُج من تعاسته.
ربما يعترض البعض على تحليلي بأن هنالك ظروف أقوى مني تُسبب هذه التعاسة لي ولا أستطيع تغييرها، كأن تقول لي سيدة تُعاني من زوجٍ قاسٍ وشرير، أن الكنيسة لا تسمح لها بالطلاق منه؛ الإجابة حاضرة عندي عليها: فلماذا تربُطين حياتك بكنيسة ظالمة هي سبب تعاستك!
أو يقول لي آخر أن نظام الحُكم في بلدي يضطهدني ويسبب تعاستي، وهذا أيضًا أُجيبه بكلمات المسيح: "وَمَتَى طَرَدُوكُمْ فِي هذِهِ الْمَدِينَةِ فَاهْرُبُوا إِلَى الأُخْرَى." (مت ١٠: ٢٣).
ثم سأسوق للجميع مثال الرجل الذي ذَكَرتْ قصته في رأس الكلام وكيف غير حالة الفقر المُدقع إلى الثراء الكبير، لا يوجد مستحيل!
تبقى شريحة الناس التي ستقول: إن سبب تعاستي ينبع من داخلي وليس من ظروف ضاغطة عليَّ، مثل الذي يعاني من أفكار ووساوس، أو مخاوف أو أمراض، وما شابه ذلك، فأين سأذهب من نفسي وأنا أجد الآلام في داخلي في نفسي أو في جسدي؟!
أقوم بالخدمة الكنسية منذ شبابي وفي ذلك الوقت لم تكن عندي الإجابة التي سأقدمها الآن للذين يُعانون من متاعب تنبع من داخل النفس أو الجسد، حيث أنني كنت مثل كل أقراني أعتقد أن المعجزات وتدخل الله بقدرة فائقة في حياة البشر للشفاء وللتغيير، أمر قد عفا عليه الزمن منذ أيام المسيح ورُسُلِهِ ولم يَعُدْ له وجود؛ ولكنني اكتشفت لاحقًا أن الله ما يزال موجودًا ويسمع أنين الإنسان المُحتاج إليه، وأن المسيح لم يتوقف عن صُنع الأشفية والمُعجزات بل ما يزال يصنعها من خلال خدامه الأمناء، وقد رأيت بعينيَّ الأشفية والمعجزات لأمراض الجسد وإعاقاته، وهذا هو ما غير مسيرة خدمتي وحياتي.
شفاء الإنسان من أسباب تعاستهِ أمر حقيقي ومتاح إذا توفرت له إرادة التغيير لحياته وللخروج من أسباب تعاسته، وإذا اصطدم الأمر معك بالحاجة إلى القوة والنعمة الإلهية لشفاء النفس وعمل المُعجزة، فإن الأشفية والمُعجزات التي صنعها المسيح للإنسان في نفسه وروحه وجسده، ما يزال يفعلها اليوم وغذًا، وهذه هي خبرتي التي تستطيع أن تجربها إذا شئت.
يقول المسيح له المجد: "تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ." (مت ١١: ٢٨).
لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "التفكير ليس ممنوعًا" اضغط عالرابط التالي