رأيٌ في الأحداث (۳٤) | اللهُ.. الإنسـَانُ.. الأنبياءُ
Jun 05, 2025 20
980 79

رأيٌ في الأحداث (۳٤) | اللهُ.. الإنسـَانُ.. الأنبياءُ

كبرتُ صغيرًا تُحْكى لي، أو أقرأُ قصةَ جدِّنا الكبيرِ آدمَ حينما كان في الجَنّةِ، وحينما طُرِد منها بسببِ التفاحةِ والشيطانِ. تلا ذلك واقعةُ الكراهيةِ وقتلُ الأخ لأخيه: "قايينُ وهابيلُ"، ثم كارثةُ الطوفانِ ونوحَ النبيِّ التي أزهقتْ أرواحَ الجميعِ آنذاك إلا نوحًا وأسرته. وقد شكَّلت هذه الخلفيةُ التاريخيةُ والمعرفيةُ في وعيي صورتي المرعبة عن اللهِ والكونِ والكتابِ المقدسِ.

لما كبرتُ ودرستُ اللاهوتَ والتاريخَ والكتابَ المقدسَ، صُدمتُ بإنكارِ علماءِ الآثارِ لقصصِ الكتابِ المقدسِ، مثل خروجِ موسى والشعبِ اليهوديِّ من مصرَ ! ، كما يروي الدكتورُ خزعلُ الماجديّ – الخبيرُ الأثريُّ العراقيّ – قصةَ الطوفانِ بمعطياتٍ مختلفةٍ ترتبطُ بفيضاني دجلةَ والفراتِ معًا. والأكثر من ذلك أنّي قرأتُ في كتابِ "الرسالة إلى الوثنيين" لقدّيسِنا أثناسيوسَ الكبيرِ أن قصةَ جنةِ آدمَ وتفاحتهِ: مجازيةٌ تصويريةٌ لفكرةِ سقوطِ الإنسانِ من الحضرةِ الإلهيةِ والفرحِ إلى حياةِ الشقاءِ.

لو لم أكن دارسًا مخضرمًا ومنتميًا إلى أكثرِ الكياناتِ المسيحيةِ التزامًا وتحفظًا – الكنيسةَ الأرثوذكسيةَ الشرقيةِ – لتهدَّدتني هجماتُ التوراتيين والمسلمين والمسيحيين على السواء بحجةِ إنكارِ ثوابتِ الكتبِ المقدسةِ والدينِ والوحيِ الإلهيّ؛ لكنني تحفظتُ بأن نَسَّبتُ الأفكارَ إلى أصحابِها من القديسينَ والآباءِ أو من العلماءِ، دونَ أن أحملَ نفسي مسؤوليتها، وذلك كشفَ غطاءَ الموروثِ الدينيِّ المستقرِّ في عقولِ الكثيرين أمامَ نورِ الفهمِ والعقلِ والتاريخِ والأبحاثِ.

لا أنكرُ على متابِعي هذا المقالِ صدمةَ ما أصابني قبلَ الثلاثينَ من عمري، حين قرأتُ كتابَ "القراءة الصحيحة للكتاب المقدس"؛ إذ أحدثَ في وعيي مواجهةً ومعضلةً معرفيةً بين سذاجةِ الموروثاتِ وثمرةِ الدراسةِ وإعمالِ العقلِ: إن هذه الموروثاتِ الدينيةَ ليست إلا شرحًا كُتب منذ آلافِ السنينَ لبشرٍ كانوا بدائيين جدًا وغير مثقفين، بل ومستعبدين – وهذا ما تشهدُ عليه التوراةُ نفسها عن الشعبِ العبرانيِّ الذي استُعبد في مصرَ وأخرجهُ موسى النبيُّ، وكتبتْ له النسخةُ الأولى من التوراة.

حالةُ التَّمَيُّزِ الفِكْرِيِّ وَاللاهُوتِيِّ الَّتِي وَرِثْتُهَا من لاهوتِ آباءِ الكنيسةِ الأرثوذكسيةِ، أنَّ وحيَ الكتابِ المقدَّسِ إلهامٌ وليس إملاءً، وأنَّ التَّعبيرَ والصّياغةَ واللُّغةَ والتَّشريعَ مَنْسوبٌ إلى الأنبياءِ البشرِ وليس إلى إلهامِ الرُّوحِ القُدُسِ. وهذا ما يُفسِّرُ التَّبايناتِ الهائلةَ بين الأنبياءِ جميعًا وهم ينطقونَ بوحي الرُّوحِ القُدُسِ والنبوةِ؛ ولولا هذه الإنارةُ في الفهمِ لما كُنتُ أنا حتى الآن واحدًا من اللاهوتيين!

مأساةُ التاريخِ المسيحيِّ هي أنَّ القديسَ جيرومَ ضَمَّ العهدينِ في مجلَّدٍ واحدٍ سنةَ ٤٠٠م، ورغم فشلِ تجربةِ "جيروم"، إلا أنَّ يوهانَّا غوتنبرغ – مُخترعَ الطباعةِ – نشرَها على نطاقٍ واسع: حيث ضُمَّ العهدانِ القديمُ والجديدُ في كتابٍ مقدَّسٍ واحدٍ انتشرَ خلالَ حركةِ الإصلاحِ البروتستانتيِّ في أنحاءِ العالم. ولم تُكتبْ في مقدمتهِ القاعدةُ التي أرساها لاهوتُ الآباءِ الأرثوذكس: أننا نقرأُ ونقبلُ العهدَ القديمَ بعيونِ العهدِ الجديد، بمعنى أنَّ ما لا يَتَّفِقُ مع العهدِ الجديدِ من العهدِ القديم فهو تاريخٌ غيرُ مُلزِمٍ للإيمانِ المسيحيّ، "وَعِندَنَا الْكَلِمَةَ النَّبَوِيَّةَ، وَهِيَ أَثْبَتُ، الَّتِي تَفْعَلُونَ حَسَنًا إِنِ انْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا، كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ، إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ النَّهَارُ، وَيَطْلُعَ كَوْكَبُ الصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ" (2 بط 1: 19).

ما حدثَ هنا في أمريكا، وفي أماكنَ كثيرةٍ من العالم، أنَّ كثرةً من الكنائسِ المسيحيةِ وقُسُوسَها شاعت لديهم فكرةُ أنَّ كلَّ الكتابِ المقدَّسِ وحيٌ كاملٌ من الله – مع أنَّ النصَّ (2 تي 3: 16) لم يَقُلْ "كُلَّ الكتابِ"، بل "كُلُّ مَكْتوبٍ (πσα γραφ)". وبناءً على هذا الفهمِ وقعَ المؤمنون في إشكاليةِ التناقضِ الصارخِ بين موسى وتوراته وعهدِ المسيحِ الجديدِ، فغادرَ الملايينُ كنائسَهم!

الأنبياءُ بشرٌ لم يرْ واحدٌ منهم اللهَ بشَهادة الكتابِ المقدَّسِ (خر 33: 20)، والموروثُ الدينيُّ يحتاجُ إلى قراءةٍ متفهِّمةٍ بالعقلِ الإنسانيِّ المتقدمِ والمتحضِّرِ، للاستفادة من المعانِي الإلهية المقدَّسةِ الموحى بها، دونَ التورطِ في تصديقِ الموروثاتِ الإنسانيةِ والتاريخيةِ المنتميةِ إلى بشرٍ وحقبٍ ضاقتْ بها سُبُلُ المعرفةِ وحريةُ الإنسانِ وإعمالُ العقلِ.

 

بنسلفانيا – أمريكا

٥ يونيو ۲۰۲٥

 

لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "رأيٌ في الأحداث" اضغط على الرابط التالي:

https://anbamaximus.org/articles/Ra2yFeElahdath

Powered By GSTV