لاهوت العهد الجديد (1) | الْجَالِسينَ فِي الظُّلْمَةِ وظِلاَلِ الْمَوْتِ
Jun 08, 2025 19
980 79

لاهوت العهد الجديد (1) | الْجَالِسينَ فِي الظُّلْمَةِ وظِلاَلِ الْمَوْتِ

لقد خرجت المسيحية من رحم اليهودية، إذ كان المسيحيّون الأوائل يهودًا يتوقَّعون ويرتقبون ظهور المسيح المخلِّص وفق نبوءات الأنبياء. فلما ظهر يسوع المسيح بينهم آمنوا به وقبلوه، وصار انتماؤهم إليه كجماعته هو ما ميَّزهم بصِفَة "المسيحيين". ومن ثمّ اعتَبَر المسيحيون الأوائل الكتاب المقدس اليهودي –بما احتوته كتبُه من نبوءات قد تحقَّقت في مسيحهم– كتابَهم المُقدَّس ومرجعيَّتهم، إذ لم يكن قد كتب إنجيلُ العهد الجديد بعد؛ ليعبر بذلك عن مرجعية المسيحية ومنهجها.
يُعدُّ الكتابُ المقدَّس اليهوديّ، المكوَّنَ من التوراة (أسفار موسى الخمسة)، وكتب الأنبياء، والمزامير، بالإضافة إلى سجلِّ تاريخ الشعب اليهودي الممتدّ من بداية الخليقة حتى عهد المكابيين السابق لظهور المسيح، مرجعًا إنسانيًّا واجتماعيًّا وتاريخيًّا لا غنى عنه لفهم حركة التاريخ بعيون الأنبياء. وقد توصَّف حالةُ اليهودية والإنسانيَّة جمعاء في تلك الحقبة –قبل إشراق نور المسيح– بما وصفه النبيُّ أشعياء في قوله: "اَلشَّعْبُ السَّالِكُ فِي الظُّلْمَةِ أَبْصَرَ نُورًا عَظِيمًا. الْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظِلاَلِ الْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ." (إش 9: 2).
هذا الوصف "الجالِسونَ في الظّلمةِ وظِلالِ المَوت" يفسر لقارئ العهد القديم (كتاب اليهود المقدس) سببَ الكمّ الهائل من الحروب والصراعات والكوارث الطبيعيَّة (كالطوفان)، والموتِ والقتلِ والخداعِ بمختلف صوره، التي تصدمنا بها صفحات العهد القديم؛ ويُظهر لنا تميُّزَ إبراهيم أبو الآباء كنموذج إنسانيّ لحياة الإيمان الخالية من العنف، في مقابل عنف القتل والدماء الذي طبع حياةَ العديد من الأنبياء وشمل البشريَّة جمعاء.
بعد كتابة أسفار العهد الجديد وتقنينها، اعتمدت الكنيسةُ المسيحية –وبخاصة الكنيسة الأرثوذكسيَّة– وجهة نظرٍ واضحةً، ترى في العهد القديم خلفيةً تاريخيَّةً ونبويةً أساسيةً لفهم العهد الجديد؛ وفي الأخير (الإنجيل) أساسًا لبشارة الحياة المسيحيَّة ومعايشتها. وقد وضع آباء الكنيسة قاعدةً مفادها: «نقبل العهد القديم بعيون العهد الجديد». لذا، في قداساتنا الأرثوذكسيَّة، لا نقرأ إلَّا فصولًا من العهد الجديد مع اقتباس من المزامير، ولا نقرأ من العهد القديم سوى النبوءات ذات الصلة بمناسباتٍ معيَّنة، كأسبوع الآلام.
ثم جاء مارتن لوثر –قائد حركة الإصلاح البروتستانتية– دكتورًا وأستاذًا للكتاب المقدس، فترجمه بعهديه إلى اللغة الألمانية التي يتحدَّثها شعبه، وفتح حريةَ قراءة الكتاب المقدس بعد أن كانت الكنيسةُ الكاثوليكية تقيد قراءتَه إلا بحضور الكاهن: "لأَنَّ شَفَتَيِ الْكَاهِنِ تَحْفَظَانِ مَعْرِفَةً، وَمِنْ فَمِهِ يَطْلُبُونَ الشَّرِيعَةَ، لأَنَّهُ رَسُولُ رَبِّ الْجُنُودِ." (ملا 2: 7).
ورغم أنَّ عمل لوثر شكَّل نقطةَ تحوُّلٍ نوعيَّة للعقل والإنسان المسيحيّ، إلّا أنَّ ورثةَ حركة الإصلاح خلطوا –دون انتباه– بين العهدين القديم والجديد باعتبارهما كتابًا مقدسًا واحدًا. وساهم في ذلك طباعةُ المجلد الواحد الذي ضمَّ كلاً منهما في مطبعة غوتنبرغ. ففقد تلاميذُ الإصلاح الحدودَ الفاصلة والعلامات المميِّزة التي تركها لنا الآباء الأرثوذكسيُّون بين:
• العهد القديم: سردٌ لواقع بشريَّةٍ «جالِسةٍ في الظّلمةِ وظلالِ المَوت» مع بصيصٍ من نور النبوات وبعض ظهورات الملائكة.
• العهد الجديد: إعلانٌ مباشر بأنَّ النور الحقيقي قد جاء إلى العالم، لكي يُنير كلّ إنسانٍ (يو 1: 9)، وأنَّ النور أباد الظلمةَ والظلمةُ لم تُدرِكه (يو 1: 5)، وأنَّ من يتبع المسيح لا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة (يو 8: 12).
للعهد القديم قدسيَّتُهُ واحترامُه، وقد استشهد بالكلمة النبوية فيه: المسيح ورُسُله والآباء، ومع ذلك يصف واقعَ البشريَّة تحتَ سُلطان الظلمة وظلال المَوت! إنَّ الخلطَ في فهم دور كلٍّ من العهدين جرَّ كثيرًا من المسيحيين إلى التخبط والاضطراب، جراء ما يرونه من تناقضٍ صارخ بين عهدٍ "قديمٍ" مليءٍ بالقتل وسبي النساء والأطفال (تثنية 20: 13-14)، وعهدٍ "جديد" يدعو إلى محبةُ الأعداء والصلاةُ من أجل المسيئين (مت 5: 44).


بنسلفانيا – أمريكا
٦ يونيو ۲۰۲٥

لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "لاهوت العهد الجديد" اضغط على الرابط التالي:
https://anbamaximus.org/articles/NewTestamentTheology

Powered By GSTV