[هذه السلسلة من المقالات عن إعادة قراءة العهد القديم بعيون وفكر العهد الجديد؛ ليست تكرارًا ولا حوارًا حول سلسلة المقالات التي سبقتها؛ التي برهنت أن ناموس العهد الجديد (روح الحياة القدوس)؛ قد حل محل ناموس العهد القديم (الخطية وعقوبة الموت) "لأنه إن تغَيَّر الكهنوت فبالضرورة يصير تغيُّر للناموس أيضًا" (عب ١٢/٧)؛ ولكنها محاولة تطبيقية جادة لقراءة العهد القديم بفكر العهد الجديد]
لقراءة المقالات السابقة من هذه السلسلة اضغط عالرابط التالي
https://anbamaximus.org/articles/
الطوفان (تك ٦-٨)
في قراءتنا بفهم العهد الجديد للإصحاحات الأولى من سفر التكوين حصلنا على تصويبات مهمة وأساسية لتواتر الموروث اليهودي؛ مقارنة مع إعلان المسيح له المجد عن الله في العهد الجديد أهمها:
أن الموت قد انتقل من الشيطان إلى الإنسان بلدغة الحية القديمة المدعوة أبليس وذلك بغوايته للإنسان وتصديق الإنسان له؛ دون الثبوت في تصديق وطاعة وصية الآب ومحبته! وليس أن الله هو الذي أمات الإنسان أو حكم عليه بالموت حسب الموروث اليهودي؛ لأن الله بإعلان العهد الجديد لا ظلمة ولا موت فيه؛ وليس قتّالاً للناس؛ ولكن القتّال للإنسان هو الشيطان؛ فالموت دخل إلى الإنسان بالخطية التي هي الخروج من حضن الآب ومحبته والارتماء في غواية وخداع الشرير القتّال (الشيطان)!
الموروث اليهودي نقل إلى البشرية: أن الكوارث الفائقة لقدرات الإنسان التي تحدث في الطبيعة؛ إنما تحدث بواسطة القدرة الإلهية الفائقة؛ وهي وحدها القادرة على إتيانها: مثل الزلازل والطوفان والأعاصير والمطر والجفاف وهكذا؛ فيما قد تبين في العصر الحديث أن الطوفان التسونامي الذي أغرق جنوب شرق آسيا وداهم الآلاف بالغرق؛ كان ناتجًا عن زلزال بتفجير لقنبلة نووية في قاع المحيط؛ وأن الأعاصير تحدث بسبب التلوث وأيضًا من صنع الإنسان؛ وكذلك تمكن الإنسان من تكنولوجيا إحداث الجفاف أو إسقاط الأمطار برش السحب من خلال الطائرات بمادة يوديد الفضة؛ فقد صار الإنسان المستعبد من الشيطان قاتلاً لأخيه الإنسان "كقايين"، وصار قادرًا على قتل الملايين بالحروب والقنابل النووية وطوفان التسونامي والزلازل.
هذا الطرح الذي فهمناه من العهد الجديد لتحالف الشيطان مع البشر المستعبدين لإرادته لصنع الشر والدمار والتخريب والقتل؛ غير واضح في ناموس موسى تمامًا! حتى يبدوا أن موسى النبي قد تحاشى كليةً أن ينسب إلى الشيطان أي من أعمال القدرة؛ حتى على الأقل الشريرة منها!
فإذا فهمنا أن العالم كله كان قد وُضِعَ في الشرير؛ وأن البشرية كلها كانت جالسة في الظلمة وظلال الموت؛ وأن إبليس كان رئيسًا لهذا العالم؛ فسنجد الإجابة سهلة وواضحة على السؤال: لماذا لم ينسب أعمال القدرة الشريرة إلى الشرير؟ لأن هذا كان سيعود بالناس إلى الاعتقاد بوجود إلهين واحد للخير والآخر شرير؛ ثم أن الشرير في تلك الحالة سيكون أكثر تأثيرًا ونشاطًا من الإله الخيّر؛ والأخطر من هذا هو أن الناس كانوا يقدمون القرابين للآلهة لتفادي غضبهم؛ ومن ثم فإن نسبة أعمال القدرة الشريرة إلى الشيطان؛ كانت ستضر جدًا بالتوحيد وبعبادة الله الخيِّر؛ ومن ثم فضلت التوراة والناموس الحفاظ على عبادة الإله الواحد؛ وأن يكون هو صانع الخير والشر؛ وهو الذي يميت وأيضًا يحيي؛ لأن إعلان المسيح عن الآب السماوي أنه نورُ لا شر فيه البتة لم يكن قد أعطي بعد؛ فلا يقدر أحدًا أن يلوم موسى النبي فهو فعليًا لم يعرف الله ولم يراه لا هو ولا غيره من الأنبياء: بشهادة توراته (خر٢٠/٣٣)؛ وبشهادة الإنجيل! (يو ١٨/١، مت ٢٧/١١)
المسيح له المجد لم يقل ولا مرة في الأناجيل: أن الله يقتل، أو يهلك البشر، أو يلقي الإنسان في جهنم! وفي كل المرات التي ورد فيها أي من هذه التعبيرات في حديثه؛ كان الفعل دائمًا مبنيًا للمجهول وغير مٌنسب إلى الله أبدًا؛ بخلاف الموروث اليهودي الذي ينسبها جميعًا إلى الله صانع الشرور والخيرات بآن واحد (الأناجيل في أيدي الجميع وراجعوا القراءة في النص اليوناني أو الترجمات الأصلية)
لا أرتضي أن يكون هناك إلهين واحد للقديم وآخر للجديد؛ ولا أن يكون الله واحد للعهدين ويكون متناقضًا مع نفسه بين القديم والجديد؛
وكمسيحي أؤمن بإله واحد وبأن كل الكتاب موحى به من الله؛ لذا فأنا أقرأ العهد القديم بعيون الجديد: خاضعًا لإعلان المسيح عن الآب الذي يعرفه وهو منه وهو الوحيد الذي رآه وخَبر عنه؛ ومن ثم فسنذهب بالسؤال مباشرة إلى الإنجيل وإلى رب المجد: مَن الذي أهلك الناس في حادثة الطوفان التي صادق المسيح على حدوثها؟
الإجابة من (لو٢٧،٢٦/١٧) "وكما كان في أيام نوح كذلك يكون أيضًا في أيام ابن الإنسان: كانوا يأكلون ويشربون ويزوجون ويتزوجون إلى اليوم الذي فيه دخل نوح الفلك وجاء (الطوفان وأهلك) الجميع"
فالمسيح لم يقل إن الله أهلك الجميع؛ بل قال: "جاء الطوفان وأهلك الجميع"
فإذا كان تلاميذه يقول لهم: "إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقولها لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن؛ وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق" (يو١٣،١٢/١٦). فكم بالأكثر الجموع الذين كان يكلمهم بأمثال؛ إذ أنهم ليسوا شركاء في معرفة أسرار ملكوت السماوات
فهل يستطيع الشيطان أن يهلك الناس الأشرار الذين أعطوه حياتهم وصاروا خاضعين تحت سلطانه بالطوفان والزلازل؟ هذا ما حدث وما سيظل يحدث إلى النهاية؛ ولكنه لن يستطيع بأي حال من الأحوال أن يمد يده على قديسي العلي وأمنائه؛ وهذا هو وحي العهد القديم "الكلمة النبوية" التي أنبأ بها نوح؛ أن دمارًا قادمًا على عالمه من الشرير بسبب الأشرار الخاضعين له؛ وهم محيطين به، وأوحى إليه وألهَمَه فكرة الفلك الذي اِحتمى به ونجا من الفيضان هو وأهل بيته، ولم يهمل نجاة كل الحيوانات والطيور المحيطة به والتي في بيته
الله الآب السماوي بحسب إعلان العهد الجديد هو إله الحياة والخلاص والنجاة؛ وليس قتالاً مهلكًا لخليقته؛ لأن المهلك والمميت والشرير متسلط عليهم ولن يدخر وسعًا في الإهلاك والاِنتقام من ضحاياه؛ دون أن يكون لهم فلك أو طوق نجاة بالأسف الشديد لأنهم أعطوا أنفسهم لطرق الشرير الذي يغدر بضحاياه ومخدوعيه؛ وكما كان فهكذا أيضًا من جيل إلى جيل؛ تتكرر القصة بسيناريوهات مختلفة والفاعل واحد؛ إنه الشرير؛ وإنها حرية الإرادة والاِختيار!
تذكرت وأنا أكتب هذا المقال أن الكنيسة الكاثوليكية في عصور الغيبوبة؛ أَعدمت المُبشِر جون هِس حرقًا وهو حي! وكان نفس المصير سيلحق بجاليلو لأنه قال إن الأرض "تدور" حول الشمس بينما يقول سفر المزامير: يا رب أنت "ثبت" الأرض! وكانوا في محاكم التفتيش يعدمون المتهمين إغراقًا في "النهر"! فإذا كان الله يٌغرِق الناس العصاة بالطوفان! فلماذا لا يُغرقون هم أيضًا المخالفين كما أغرقهم الله بالطوفان؟!