تابعتُ بكثيرٍ من الإعجاب اللقاء المسكوني الذي انعقد الشهرَ الفائت بين قداسة بابا روما، وقداسة بطريرك القسطنطينية، مع لفيفٍ من قادة الكنائس الأرثوذكسية؛ سعيًا لتأسيس الوحدة المسيحية المسكونية. غير أن لقاء المحبة المتضعة بين أساقفة الشرق والغرب أثار في عقلي شجونًا وجراحًا غائرة، تركها أسلافهم من أساقفة الكنيسة، حينما مزَّقوا الكنيسة – جسد المسيح – بغير رأفةٍ إلى أشلاءٍ وأقسامٍ وطوائف. ناهيك عمّا فعلوه برعية المسيح من تصرُّفاتٍ حزينة وأليمة، وصفها الرسول بولس بقوله مخاطبًا الأساقفة: "… سَيَدْخُلُ بَيْنَكُمْ ذِئَابٌ خَاطِفَةٌ لاَ تُشْفِقُ عَلَى الرَّعِيَّةِ." (أع ٢٠: ٢٩).
ولم تكن أخطاء رجال الدين هي العبء الوحيد الذي قاست منه الإنسانية؛ بل كان الدين نفسه أداةً للتحكُّم والقمع والترهيب، وثقلًا لم تتحمَّله العقول الرشيدة والنفوس الأمينة، فقد قدَّموا صورةً مُخيفة ومُنفِّرة للإله: في ساعة غضبه يُهلِك الكبارَ والصغارَ بطوفان المياه، وفي وقت انتقامه يُصلِي نارًا أبدية حامية لا تطفأ في هوةٍ بلا قرار، يَشوي فيها البشر الذين لم يفوزوا بجناته. ناهيك عن قمع واستعباد المرأة، وقسوة أحكام الدِّين وشرائعه ومتطلباته من الإنسان، مع طابورٍ طويلٍ من اللامعقولات التي نُقِلَت عن الموروث التلمودي!
لقد تعلَّمت وتربَّيت على أيدي رجال الدين هؤلاء، ولم يُخرجني من قفص عبوديتهم إلا أمران: الأول، أنني كنتُ في شبابي مُحبًّا للفلسفة؛ والثاني، أنني اتخذت قرارًا بعد تخرجي مباشرة أن أُعيد قراءة الإنجيل بصورةٍ شخصية، لأتعرَّف على صورة الله كما عكسها المسيح يسوع على حقيقتها. وهكذا صرتُ ما أنا عليه الآن، لكن هذا حل مشكلتي والذين يسمعونني؛ في حين يعيش أغلبية رجال الدين في أوهام الماضي، ولا يريدون أن يتنبهوا إلى الملايين الذين يتسرَّبون يوميًا من الدين.
قال لي صديقي المفكر: "لقد تركتُ الدين وأصبحتُ الآن ربوبيًّا". ولأنه شخصٌ قوي ذو مكانةٍ ومفكرٌ استطاع أن يعلنها بقوةٍ وجرأة. لكن، ماذا عن الملايين الذين يخشَون المجتمع وسُلطة رجال الدين، وربما عائلاتهم أيضًا؟ لم تعد مشكلة الإنسان – كما كان في الماضي – هي الشك أو اليقين في وجود الله من عدمه؛ فقد صار وجود الله مُبرهنًا وتشتاق إليه النفس. لكن المشكلة الحقيقية اليوم بين الإنسان والدين نفسه. قال لهم السيد المسيح: "وَيْلٌ لَكُمْ أَنْتُمْ أَيُّهَا النَّامُوسِيُّونَ! لأَنَّكُمْ تُحَمِّلُونَ النَّاسَ أَحْمَالًا عَسِرَةَ الْحَمْلِ وَأَنْتُمْ لاَ تَمَسُّونَ الأَحْمَالَ بِإِحْدَى أَصَابِعِكُمْ." (لو ١١: ٤٦).
أمامَنا خياران: الخيار الأول هو أن تندفع النفوس إلى الحركة المسكونية التجديدية التي أسَّس لها الباباوان الكريمان في "نيقية"، تاركين الماضويين في صراعاتهم؛ أما الخيار الثاني، فهو خروج الملايين – في صمت – من عباءة الدين إلى الربوبية. وهذا ما يحدث بصفةٍ منتظمة في كل يوم. أو تجديد الفكر والخطاب الديني ليصبح متسقًا مع عقل الإنسان وإنسانيته وحريته، وهذا رأيي في الأحداث.
بنسلفانيا – أمريكا
٢٣ ديسمبر ٢٠٢٥
لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "رأيٌ في الأحداث" اضغط على الرابط التالي:
https://anbamaximus.org/articles/Ra2yFeElahdath