رأيٌ في الأحداث (٧٦) | القمع الديني
Dec 04, 2025 2
980 79

رأيٌ في الأحداث (٧٦) | القمع الديني

يشهدُ التاريخ أن انتشار المسيحية السطحي كان بسبب اهتداء الإمبراطور قسطنطين الكبير إلى المسيحية، أما انتشار المسيحية بين المؤمنين الحقيقيين فقد كان سببه العميق هو حدُّ السيف: هذا السيف لم يكن بيد المسيحيين على الآخرين، ولكنه كان بيد مضطهديهم من أصحاب السلطان عليهم؛ فقد تحققت نبوءة المسيح في (مت 10: 34) "لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا".
هنالك حالة إنسانية وفوق طبيعية تحدث للإنسان حينما يرى الآخرين يُقتلون بيد السُّلطة بسبب اختيارهم الحر لدينٍ آخر غير ديانة السُّلطة، وحينما يرى أصدقاءً يعرفهم أو أشخاصًا لا يعرفهم يُقدَّمون إلى الذبح العلنيّ لإخافة الآخرين بينما هم يستقبلون الموتَ والتجبّر بسلامٍ قلبيٍّ ونفسيٍّ مبهر للبشرية، وبشجاعة ورباطة جأش تتحدى السيوف وتهزم الموت: "لاَ تَخَافُوا مِنَ الَّذِينَ يَقْتُلُونَ الْجَسَدَ وَلَكِنَّ النَّفْسَ لاَ يَقْدِرُونَ أَنْ يَقْتُلُوهَا" (مت 10: 28).
مواجهة الموت بفرحٍ وشجاعة مع قسوة الظلم والاضطهاد والذبح أنشأت في نفوس الكثيرين تساؤلًا منطقيًا: كيف يكون هؤلاء مستعدين للتضحية بأموالهم وكرامتهم، حتى بحياتهم، مقابل عدم التنازل عمّا يؤمنون به؟ فلا يمكن منطقيًا أن يبذل الإنسانُ حياتَه مقابل إيمانٍ زائفٍ أو غير يقيني! ومن هنا فإن زيادة جرعة القهر الديني مع ما يقابلها من كمّ الفرح الهائل والاستهانة المنقطعة النظير بالخوف والموت قادت الكثيرين إلى البحث عن ما يكون إيمان هؤلاء المضطهدين وسرّ قوتهم.
الفرعون العبراني موسى النبي هو من وضع قاعدة قتل المرتد والإبلاغ عنه بلا رأفة في أول شريعة مكتوبة: "وَإِذَا أَغْوَاكَ سِرًّا أَخُوكَ ابْنُ أُمِّكَ، أَوِ ابْنُكَ أَوِ ابْنَتُكَ، أَوِ امْرَأَةُ حِضْنِكَ، أَوْ صَاحِبُكَ الَّذِي مِثْلُ نَفْسِكَ قَائِلًا: نَذْهَبُ وَنَعْبُدُ آلِهَةً أُخْرَى لَمْ تَعْرِفْهَا أَنْتَ وَلَا آبَاؤُكَ... قَتْلًا تَقْتُلُهُ. يَدُكَ تَكُونُ عَلَيْهِ أَوَّلًا لِقَتْلِهِ، ثُمَّ أَيْدِي جَمِيعِ الشَّعْبِ أَخِيرًا» (تث 13: 6–9).
ربما نجح الخوف من الموت في تحقيق الخوف الذي قصده النبي موسى، لكن هذا كان ناجحًا في عصور العبيد والعبودية، ولكن لما امتلك الإنسانُ حريتَه صارت الفكرة تأتي بنتائج عكسية: "فَإِنْ حَرَّرَكُمُ الابْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا" (يو 8: 36).
ما تزال هنالك بلاد في عالمنا المعاصر تُطبِّق عقوبة الإعدام على من يؤمن بالمسيحية أو يقتني إنجيلًا، مثل كوريا الشمالية وإيران والمملكة العربية السعودية وغيرها. وقد أشارت الإحصائيات التقديرية — طبقًا لشات جي بي تي — إلى "أن حوالي 50,000 مسجد يُعتَبَر مغلقًا أو غير نشط، من بين نحو 75,000 مسجد يُفْتَرَض أنها كانت موجودة منذ الثورة الإسلامية في إيران".
من خبرتي الطويلة كمبشّرٍ مخضرم أن الإيمان لا يقوم إلا على الاختيار الحر، وإلا لصار إذعانًا لا إيمانًا، وأن الإيمان لا بد أن يكون مصدر فائدة حقيقية لمن يؤمن به في حياته الراهنة قبل أن يُوعَد بجنةٍ بعيدة. هذا فضلًا عن أهمية أن يكون التبشير بالإيمان معقولًا ومفهومًا ومبرهنًا، أما أساليب التكرار الصوتي والقمع الفكري والمدرسي والكتاتيبي فإنه لا يؤسِّس للإيمان اليقينيّ، بل للإيمان الجماهيري.
أنا مهتم هذه الأيام بقضية الإلحاد التي صارت تعصف بكل الأديان، وقد وجدت أنه من مسؤوليتي أن أنقل خبرتي لغيري، أما ثوابت الإيمان العتيقة فلم تعد مقنعة لإنسان العصر بغير عقلنتها وعصرنتها وأنسنتها، وهذه هي مفاتيح الخطاب التي تقنع الشباب، هذا فضلًا عن قضية حرية اختيار الإيمان التي أسهبتُ فيها في بداية هذا المقال.
وهذا هو رأيي في الأحداث.

بنسلفانيا – أمريكا
٢ ديسمبر ٢٠٢٥

لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "رأيٌ في الأحداث" اضغط على الرابط التالي:
https://anbamaximus.org/articles/Ra2yFeElahdath

Powered By GSTV