كورس في البدء كان الكلمة | المحاضرة التاسعة عشر | العشاء الأخير
Dec 03, 2025 3
980 79

كورس في البدء كان الكلمة | المحاضرة التاسعة عشر | العشاء الأخير

باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد الذي له كل المجد إلى الأبد. آمين.
أهلًا بكم جميعًا أيها الأحباء في المحاضرة التاسعة عشرة من قراءتنا في إنجيل القديس يوحنا، وعنوانها اليوم هو: "العشاء الأخير".

 

إنجيل يوحنا ومفاتيح الأسرار
يجدر بنا أن نلفت النظر بدايةً إلى أن إنجيل القديس يوحنا قد كُتب في فترة متأخرة جدًا، أي حوالي سنة 100 ميلادية. في ذلك الوقت، كانت الكنيسة قد انتشرت، وكانت الأناجيل الأخرى (الإزائية) قد كُتبت، وكذلك الرسائل.
كان جوهر العشاء الأخير، الذي وثّقه القديس بولس بقوله: "لأَنَّنِي تَسَلَّمْتُ مِنَ الرَّبِّ مَا سَلَّمْتُكُمْ أَيْضًا: إِنَّ الرَّبَّ يَسُوعَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي أُسْلِمَ فِيهَا، أَخَذَ خُبْزًا وَشَكَرَ فَكَسَّرَ، وَقَالَ: «خُذُوا كُلُوا هذَا هُوَ جَسَدِي الْمَكْسُورُ لأَجْلِكُمُ. اصْنَعُوا هذَا لِذِكْرِي»." (1 كو 11: 23-24)، قد صار أمرًا مستقرًا ومستتبًا ومعلومًا في ممارسات الكنيسة.
من هنا، فإن القديس يوحنا يذهب بنا إلى مفاتيح أسرار ملكوت السماوات، التي يريد أن يؤكد بها ويثبت من خلالها الفهم الحقيقي والعميق لإرسالية المسيح.
لنقرأ معًا من إنجيل يوحنا الإصحاح 13:
"أَمَّا يَسُوعُ قَبْلَ عِيدِ الْفِصْحِ، وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ سَاعَتَهُ قَدْ جَاءَتْ لِيَنْتَقِلَ مِنْ هذَا الْعَالَمِ إِلَى الآبِ، إِذْ كَانَ قَدْ أَحَبَّ خَاصَّتَهُ الَّذِينَ فِي الْعَالَمِ، أَحَبَّهُمْ إِلَى الْمُنْتَهَى. فَحِينَ كَانَ الْعَشَاءُ، وَقَدْ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ يَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ أَنْ يُسَلِّمَهُ، يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ، وَأَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَرَجَ، وَإِلَى اللهِ يَمْضِي،" (يو 13: 1-3).
تحمل هذه المقدمة معنىً عميقًا جدًا يتطلب منا وقفة لاهوتية لتصحيح المفاهيم:
1. الموت هو عمل إبليس، والقيامة هي مشيئة الله نحن اعتدنا أن نقول إن "الصليب هو مشيئة الله". والصحيح والأدق لاهوتيًا أن نقول إن القيامة هي مشيئة الله. لماذا؟ لأن الصليب، الذي هو الموت، هو في جوهره عمل إبليس. فإبليس هو الذي له سلطان الموت. هذه نقطة جوهرية أرجو أن تتصحح في أذهان تلاميذ العهد الجديد.

2. التمييز بين العهدين في العهد القديم، صلَّت حنة أم صموئيل قائلة: "الرَّبُّ يُمِيتُ وَيُحْيِي" (1 صم 2: 6). وقد صار هذا نصًا يُستشهد به، ولكن حنة أم صموئيل صلاتها ليست ملزمة لنا في الفهم اللاهوتي الجديد، لأن الله في ذاته لا يُميت، إذ ليس فيه موت، الله هو الحياة.
ولكن الذي له سلطان الموت، كما هو مكتوب بوضوح في العهد الجديد في الرسالة إلى العبرانيين: "لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ،" (عب 2: 14).
فإبليس هو الذي جاء بالصليب، ورؤساء الكهنة كانوا قد أسلموه حسدًا (مرقس 15: 10). إذًا:

  • القيامة هي مشيئة الله.
  • الحياة هي مشيئة الله.
  • الغلبة على الموت هي مشيئة الله.

أما الموت والصليب، فهو عمل إبليس ومواجهته، وقد واجهه الابن القدوس لكي يُبطل بالموت ذاك الذي له سلطان الموت.
من هنا نفهم أن الموت أو النجاة منه ليس أمرًا يحدث بالصدفة للمؤمن. قد نقول: فلان استشهد في عز شبابه. نعم، ولكن لو كان الآب السماوي يرى أنه لا يزال لديه دور ليقوم به، لكان قد أنقذه من الموت. ولكن لأنه يعلم أن الآب قد دفع كل شيء إلى يديه، وأنه هذا هو وقت عودته إلى الآب. المسيح كان عالمًا أن ساعته قد جاءت، لأن المهمة قد انتهت، كما قال: "أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ. الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ." (يو 17: 4).
"أَنَا أَظْهَرْتُ اسْمَكَ لِلنَّاسِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْعَالَمِ. كَانُوا لَكَ وَأَعْطَيْتَهُمْ لِي، وَقَدْ حَفِظُوا كَلاَمَكَ." (يو 17: 6).
كذلك نجد بطرس في رسالته الثانية يقول: "عَالِمًا أَنَّ خَلْعَ مَسْكَنِي قَرِيبٌ، كَمَا أَعْلَنَ لِي رَبُّنَا يَسُوعُ الْمَسِيحُ أَيْضًا." (2 بط 1: 14). ويضيف: "فَأَجْتَهِدُ أَيْضًا أَنْ تَكُونُوا بَعْدَ خُرُوجِي، تَتَذَكَّرُونَ كُلَّ حِينٍ بِهذِهِ الأُمُورِ." (2 بط 1: 15).
إذن، الموت والنجاة منه مرتبطان بإتمام المهمة؛ فمن انتهت مهمته وجب أن يرجع إلى بيته، ومن لم تنتهِ مهمته تصير له نجاة من الموت لأن وراءه عملًا سيكمله.
كما أن النص يضيف نقطة هامة: "يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ أَنَّ الآبَ قَدْ دَفَعَ كُلَّ شَيْءٍ إِلَى يَدَيْهِ". أي أن كل شيء مُخضَع لمشيئته، حتى حينما يواجه الموت، فهو يواجهه بسلطان مُعطى، كما قال لبيلاطس: "أَجَابَ يَسُوعُ: لَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ سُلْطَانٌ الْبَتَّةَ، لَوْ لَمْ تَكُنْ قَدْ أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ." (يو 19: 11).

 

غسل الأرجل، وسر التطهير المتجدد
وهو جالس على العشاء، وكل هذه الحقائق واضحة أمامه، قام ليسلم الكنيسة هذا السر العظيم:
"قَامَ عَنِ الْعَشَاءِ، وَخَلَعَ ثِيَابَهُ، وَأَخَذَ مِنْشَفَةً وَاتَّزَرَ بِهَا، ثُمَّ صَبَّ مَاءً فِي مِغْسَلٍ، وَابْتَدَأَ يَغْسِلُ أَرْجُلَ التَّلاَمِيذِ وَيَمْسَحُهَا بِالْمِنْشَفَةِ الَّتِي كَانَ مُتَّزِرًا بِهَا." (يو 13: 4-5).
نحن نتقدم في كل أسبوع إلى سر العشاء الرباني للاتحاد بجسد الرب ودمه، ولكننا قد نغفل عن الشرط الذي وضعه المسيح: "إِنْ كُنْتُ لاَ أَغْسِلُكَ فَلَيْسَ لَكَ مَعِي نَصِيبٌ." (يو 13: 8).
وحينما طلب بطرس أن يغتسل كليًا، قال له الرب: "قَالَ لَهُ يَسُوعُ: الَّذِي قَدِ اغْتَسَلَ لَيْسَ لَهُ حَاجَةٌ إِلاَّ إِلَى غَسْلِ رِجْلَيْهِ، بَلْ هُوَ طَاهِرٌ كُلُّهُ." (يو 13: 10).

  • الذي قد اغتسل: يشير إلى المعمودية والخلاص الأولي، فإذا كنت قد اغتسلت وتطهرت، فأنت لست بحاجة لإعادة الاغتسال الكامل.
  • غسل الرجلين: يشير إلى الحاجة لتنظيف ما اتسخ نتيجة السير في طريق العالم.

ومن هنا ترسخ في تقليد الكنيسة منذ بدايتها، كما هو مكتوب في كتاب "الديداكي" (تعليم الرسل): "إذا اجتمعتم لعشاء الرب، فأولًا تعترفون بخطاياكم لكي تكون ذبيحتكم نقية".
فالاعتراف بالخطايا الذي نمارسه هو المعادل الطقسي والروحي لـ "غسل الرجلين". أما الاغتسال الكامل فهو التطهير بدم المسيح وخلاصه الذي نلناه للدخول في الشركة.
لذلك، قبل أن يكسر الخبز ويبارك الكأس ويقول "هَذَا هُوَ جَسَدِي... وَهَذَا هُوَ دَمِي"، كان أول ما فعله هو أنه غسل أرجلهم، مُسلِّمًا إياهم سر غسل القدمين، الذي هو سر الغسل المتجدد للخطايا والضعفات والمواجهات والتجارب التي تأتي نتيجة المسيرة في العالم.

 

سِرُّ الاتضاعِ.. بوابةُ الوحدةِ والشركة
النقطةُ الثانيةُ، وهي أكثرُ أهميةً من مجردِ الفعلِ الفيزيائي لغسلِ الأرجلِ، هي أنَّ الربَّ سَلَّمَهُم سِرَّ الاتضاعِ.
1. كسرُ الكبرياءِ البشري
تخيَّلْ معِي المشهدَ: عندما تكونُ تلميذًا في الفصلِ، ويأتي مُعَلِّمُكَ لينحني ويغسلَ رِجليكَ. ماذا يحدثُ في داخِلِك؟ أنتَ تنكسرُ؛ ينكسرُ في داخلِكَ كلُّ إحساسٍ بالتميُّزِ والكبرياءِ بمجردِ رؤيتِكَ للمُعَلِّمِ وهو ينحني لغسلِ قدميكَ. إذًا، هو لم يكنْ يُقدِّمُ مُجردَ مثالٍ أخلاقيٍّ، بل كانَ يُسَلِّمُهُم سِرَّ الاتضاعِ.

2. حتميةُ الاتضاعِ للوحدة - لماذا هذا السرُّ ضروري؟
بدون الاتضاعِ لا توجدُ وحدةٌ ولا توجدُ محبةٌ.
بدون الاتضاع لا يصيرُ الجسدُ واحدًا: "لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا، لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي." (يو 17: 21).
بدونِ سِرِّ الاتضاعِ والاعترافِ بالخطيئةِ (غسلِ الأرجلِ كما شرحتُهُ)، لا يُوجَدُ دخولٌ إلى شركةِ الوحدةِ مع الكنيسةِ ومع المسيح. يغيبُ هذا السرُّ عن أذهانِ الكثيرين، وخصوصًا في مرحلةِ الشبابِ، حيثُ تكونُ الخبرةُ مختلفةً عن مرحلةِ الشيخوخة. فالشبابُ يمتلكونَ قدرًا من الإحساسِ بالزهوِ والقوةِ والإنجازِ، والذي ربما ينكسرُ مع التقدُّمِ في العمرِ وزيادةِ الخبرة. هذا "الزهو" يُمثِّلُ عائقًا قويًا في طريقِ امتلائنا من حضورِ المسيح.
لذلكَ، كانَ لا بد أن أبدأَ الدرسَ اليومَ كما بدأَ المسيحُ العشاءَ: بتسليمِ سِرِّ الاتضاعِ وغسلِ القدمين، اللذينِ بدونِهِما لن تقدرَ الجماعةُ أن تكونَ واحدةً.

 

نداءاتُ النعمةِ الأخيرةِ ليهوذا الإسخريوطي
الخطوةُ التي تلي ذلكَ تتعلقُ بمأساةِ يهوذا. بعدَ أن غسلَ الربُّ أرجلهم جميعًا، بما فيهم يهوذا، ورغمَ علمهِ المسبقِ بكلِّ شيءٍ: "أَنَّ وَاحِدًا مِنْكُمْ سَيُسَلِّمُنِي" (يوحنا 13: 21). و "أَلَيْسَ أَنِّي أَنَا اخْتَرْتُكُمْ، الاثْنَيْ عَشَرَ؟ وَوَاحِدٌ مِنْكُمْ شَيْطَانٌ!" (يوحنا 6: 70).
رغمَ كلِّ هذا، كانَ الربُّ حريصًا جدًا على تقديمِ نداءاتِ النعمةِ لكي يستردَّ يهوذا من يدِ الشرير.
علامةُ اللقمة (يوحنا 13: 26): أولُ نداءٍ من نداءاتِ النعمةِ يظهرُ في قولهِ: "فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ سِمْعَانُ بُطْرُسُ أَنْ يَسْأَلَ مَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ الَّذِي قَالَ عَنْهُ. فَاتَّكَأَ ذَاكَ عَلَى صَدْرِ يَسُوعَ وَقَالَ لَهُ: «يَا سَيِّدُ، مَنْ هُوَ؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «هُوَ ذَاكَ الَّذِي أَغْمِسُ أَنَا اللُّقْمَةَ وَأُعْطِيهِ!» فَغَمَسَ اللُّقْمَةَ وَأَعْطَاهَا لِيَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ." (يو 13: 24-26).
يجبُ التنويهُ هنا أننا لا نتحدَّثُ عن سِرِّ الإفخارستيا بعد، بل نتحدَّثُ عن العشاءِ (الأغابي) الذي سبقَ السر، لأنَّ الكتابَ يقولُ: "وَفِيمَا هُمْ يَأْكُلُونَ أَخَذَ يَسُوعُ الْخُبْزَ، وَبَارَكَ وَكَسَّرَ وَأَعْطَى التَّلاَمِيذَ وَقَالَ: «خُذُوا كُلُوا. هذَا هُوَ جَسَدِي»." (مت 26: 26). فالكنيسةُ الأولى كانت تُقيمُ احتفالَ العشاءِ أولًا، ثم تُقدِّمُ الخبزَ والخمرَ.

 

لُقمةُ التكريمِ.. دحضُ افتراءاتِ العدو
ما هي حكايةُ "تغميسِ اللقمة"؟ في العاداتِ القديمةِ (التي ما زالت موجودةً في الأوساطِ اليهوديةِ وبعضِ العائلاتِ العربيةِ)، والتي احتككتُ بها شخصيًا، نجدُ الآتي:
طريقةُ التقديم: اللقمةُ التي تُغمَسُ لا تُعطَى في اليدِ، بل يضعُها كبيرُ العائلةِ مباشرةً في فمِ المُتلقِّي.
مَن يَستحقُّها؟ أولُ لقمةٍ يغمسُها ربُّ العائلةِ تُعطَى لـ: الابنِ البِكر، أو الابنِ العريس، أو الضيفِ المُكَرَّمِ جدًا.
المعنى الرمزي: هي تعبيرٌ عن أقصى درجاتِ المحبةِ والتقديرِ للعزيزِ الغالي.
إذًا، تقديمُ المسيحِ اللقمةَ ليهوذا (في فمه) كانَ أولَ نداءٍ من نداءاتِ المحبةِ العميقةِ، وكأنَّهُ يقولُ له: "أنتَ عزيزٌ ومُقدَّرٌ عندي".

 

الصراعُ الخفيُّ (يهوذا وبطرس) وعلاجُ الشكاية
هناكَ ملحوظةٌ هامةٌ موروثةٌ في التقليدِ الكنسيِّ (غيرُ مذكورةٍ صراحةً في النصِّ ولكن يُستدَلُّ عليها):
كبارُ التلاميذ: يُعتَقدُ أنَّ يهوذا وبطرس كانا أكبرَ رجلينِ سنًا في المجموعةِ، وكانا يمتلكانِ أُسرًا ومكانةً اجتماعيةً مقارنةً بباقي الشبابِ (مثل يوحنا).
المنافسة: ولأنهما الأكبر، كانَ هناكَ احتكاكٌ دائمٌ ومنافسةٌ بينهما. ولهذا نلاحظُ دائمًا أنَّ الصندوقَ مع يهوذا، بينما بطرسُ هو المتحدِّثُ الدائم. وعندما حدثتِ المباحثةُ بينهم: "مَنْ مِنْهُمْ يُظَنُّ أَنَّهُ يَكُونُ أَكْبَرَ" (لوقا 22: 24)، كانَ هذا الصراعُ حاضرًا.
وشايةُ الشيطان: استغلَّ الشيطانُ هذا التنافسَ، وبدأَ "يَزِنُّ" في أُذنِ يهوذا قائلًا: "انظرْ، هو يُفضِّلُ بطرسَ عليكَ، هو لا يُحِبُّكَ"، كما يحدثُ في عالمِنا اليوم.
الردُّ الإلهي: أرادَ الربُّ أن يكسرَ شكايةَ إبليسَ وخداعاتِهِ عمليًا، فأعطى يهوذا اللقمةَ في فمهِ (علامة التكريمِ الخاص)، لتكونَ حركةَ استعلانٍ لمحبةِ اللهِ الشخصيةِ في مواجهةِ الشخصِ الذي أمسكَ إبليسُ بأذنِهِ.

 

قُبلةُ المصالحةِ في مواجهةِ قُبلةِ الخيانة
النداءُ الثاني والأخيرُ للنعمةِ نجدهُ محفوظًا في التقليدِ الليتورجي، وتحديدًا في "صلاةِ الصلحِ" من القداسِ الغريغوري، التي تقولُ: "وأنت نار آكلة كإله من أجل تنازلك غير الموصوف ومحبتك للبشر لم تحرق الخائن الغاش عندما دنا منك بل قبلته قبلة المصاحبة جاذبًا إياه إلى التوبة ومعرفة جسارته."

تحليلُ الموقفِ:
عادةُ القُبلة: كانَ المسيحُ قد عوَّدَ تلاميذَهُ على التقبيلِ كعلامةٍ للمحبةِ الأخويةِ عندَ اللقاء (وهو ما ورثناهُ في الكنيسة: "قَبِّلوا بعضكُم بعضًا").
توظيفُ الخيانة: جاءَ يهوذا ليُوَظِّفَ علامةَ المحبةِ (القبلة) لتكونَ علامةً للخيانةِ: "الَّذِي أُقَبِّلُهُ هُوَ هُوَ، أَمْسِكُوهُ" (متى 26: 48).
الردُّ الإلهي: النصُّ الليتورجيُّ يوضحُ أنَّ الربَّ لم يحترقْ غضبًا، بل بعدَ أن قبَّلَهُ يهوذا قبلةَ الخيانةِ، جذبهُ الربُّ إليهِ وقبَّلهُ قُبلةَ المحبةِ والمصالحةِ الحقيقيةِ، مُعاتبًا إياهُ بحنانٍ: "يَا يَهُوذَا، أَبِقُبْلَةٍ تُسَلِّمُ ابْنَ الإِنْسَانِ؟" (لوقا 22: 48).
وكأنَّ لسانَ حالِهِ يقولُ: أنتَ جئتَ بقبلةِ الخيانةِ، ولكن خُذْ مني قُبلةَ المحبةِ لعلَّكَ ترجع.

 

لماذا دخَلَ الشيطانُ يهوذا بعدَ اللقمة؟ (رفضُ الحب)
قبلَ أن نُغادرَ مشهدَ العشاءِ، هناكَ نقطةٌ لاهوتيةٌ ونفسيةٌ بالغةُ الأهميةِ تُفسِّرُ الآيةَ: "فَبَعْدَ اللُّقْمَةِ دَخَلَهُ الشَّيْطَانُ" (يوحنا 13: 27).
1. اللقمةُ كآخرِ نداءٍ للمحبة
كنتُ أتساءلُ في صغري: "كيفَ للقمةٍ من يدِ الربِّ أن تُدخِلَ الشيطانَ؟". الإجابةُ تكمنُ في أنَّ اللقمةَ كانت آخرَ نداءاتِ المحبةِ القويةِ على العشاءِ (قبلَ المحاولةِ الأخيرةِ في البستانِ).
الشيطانُ لم يدخلْ بسببِ اللقمةِ ذاتِها، بل دخلَ لأنَّ يهوذا أخذَ اللقمةَ (علامةَ الحبِّ) ورَفَضَ نداءَ المحبةِ الكامنَ فيها.
2. درسٌ تحذيري
انتبهوا جيداُ لهذهِ الملحوظةِ: عندما يأتي إليكَ نداءُ محبةٍ ومصالحةٍ وأنتَ مجروحٌ أو غاضبٌ، ويرفضُ قلبُكَ هذا النداءَ، فإنكَ بذلكَ تُعرِّضُ نفسَكَ لأن يشتكيَ عليكَ إبليسُ ويمدَّ يدَهُ عليكَ. رفضُ المحبةِ هو فتحُ البابِ للعدو.

 

تطوُّرُ طقسِ الأفخارستيا
ننتقلُ الآنَ إلى التطورِ التاريخيِّ لسرِّ الشكرِ، وكيفَ تعاملَ الرسولُ بولسُ مع الانحرافاتِ التي حدثتْ في كورنثوس.
1. الوضعُ في الكنيسةِ الأولى (مشكلةُ كورنثوس)
في البدايةِ، كانَ المؤمنونَ يجتمعونَ لتناولِ عشاءٍ فعليٍّ (أغابي)، وبعدَهُ يكسرونَ الخبزَ (السر). ولكن حدثتْ تجاوزاتٌ انتقدَها بولسُ بشدةٍ (1 كورنثوس 11):
التمييزُ الطبقي: الغنيُّ يأتي بطعامٍ فاخرٍ (كالبطِّ المحشوِّ مثلًا)، والفقيرُ يأتي بكسرةِ خبزٍ وجُبن.
الأنانيةُ والسُكْر: بدلًا من المشاركةِ، كانَ كلُّ واحدٍ يأكلُ طعامَهُ الخاصَّ، فالغنيُّ يشبعُ ويسكرُ (من كثرةِ الأكلِ والشربِ)، والفقيرُ يظلُّ جائعًا ويخجل.
توبيخُ بولس: "فَحِينَ تَجْتَمِعُونَ مَعًا لَيْسَ هُوَ لأَكْلِ عَشَاءِ الرَّبِّ... أَفَلَيْسَ لَكُمْ بُيُوتٌ لِتَأْكُلُوا فِيهَا وَتَشْرَبُوا؟ أَمْ تَسْتَهِيتُونَ بِكَنِيسَةِ اللهِ وَتُخْجِلُونَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ؟" (1 كو 11: 20-22).
2. الإصلاحُ والتطويرُ الليتورجي
نتيجةً لهذهِ المشاكلِ، حدثَ تطورٌ في ترتيبِ العبادةِ:
قلبُ الترتيب: بدلًا من العشاءِ أولًا ثم السر، صارَ كسرُ الخبزِ (التناول) أولًا، ثم يليهِ العشاءُ.
توحيدُ المائدة (الأغابي): لإنهاءِ التمايزِ الطبقي، تمَّ توحيدُ العشاءِ فيما عُرِفَ بـ "مائدةِ الأغابي" (المحبة)، والتي لا تزالُ بقاياها موجودةً في الأديرةِ، أو اختُزِلَتْ في شكلِ "لقمةِ البركة" (القربانة) التي تُوزَّعُ بعدَ القداس.
نصلُ الآنَ إلى جوهرِ عشاءِ الربِّ، ونناقشُ القاعدةَ الآبائيةَ الشهيرةَ: لا خلاصَ خارجَ الكنيسة
الاعتراضُ وإعادةُ التعريف: قد يعترضُ بعضُ الأحباء (مثل البروتستانت) على هذهِ العبارة، لأنهم ينظرونَ إلى "الكنيسة" بمفهومٍ مؤسسيٍّ أو طائفيٍّ ضيق، ويرونَ أنفسَهم خارجَ الكنيسةِ التقليديةِ التي ثاروا عليها. ولكن، الحقيقةُ هي أنَّ الكنيسةَ ليستْ هي المؤسسةَ المنشقةَ ولا الثائرةَ عليها، وليستْ كنيسةَ أثناسيوس ولا أنطونيوس بمفهومِ الملكيةِ البشريةِ.

 

المفهومُ الكتابيُّ للكنيسة (أفسس 1: 22-23)
لِنقرأْ تعريفَ الكنيسةِ كما وردَ في الكتاب: "وَأَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وَإِيَّاهُ جَعَلَ رَأْسًا فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ لِلْكَنِيسَةِ، الَّتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ الَّذِي يَمْلأُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ." (أف 1: 22-23).
الكنيسةُ هي جسدُ المسيحِ.
بناءً على هذا التعريف، نعم، "لا خلاصَ خارجَ الكنيسة"؛ لأنهُ لا خلاصَ خارجَ جسدِ المسيحِ.
الحديثُ عن "كنيستِنا وكنيستِكُم" هو ضيقُ أُفقٍ مُزعِج. الكنيسةُ الحقيقيةُ هي واحدةٌ، وهي جسدُ المسيحِ الممتلئُ والمُمجَّدُ، والاتحادُ بها هو اتحادٌ بالمسيحِ رأسِها.


لاهوتُ الجسدِ المُمَجَّد (من التجسُّدِ إلى القيامةِ)
هذا الشرحُ العميقُ يستندُ إلى تعليمِ القديسِ غريغوريوسَ النزيانزيِّ (الثيولوغوس)، وقد سمعتُهُ لأولِ مرةٍ حينما كنتُ طالبًا في الكليةِ الإكليريكيةِ من المُعلِّمِ الراحلِ، نيافةِ الأنبا غريغوريوس، نيَّحَ الربُّ نفسَهُ، الذي كانَ إنسانًا تقيًا وقديسًا.
1. مراحلُ تطوُّرِ الجسدِ المُقَدَّس
مرحلةُ التجسُّد: الابنُ الكلمةُ اتخذَ جسدًا من العذراءِ مريمَ، يُشبهنا في كلِّ شيءٍ (مثل يدي وجسدِكَ تمامًا)، ما خلا الخطيئةَ وحدَها.
مرحلةُ القيامةِ (التحوُّر): هذا الجسدُ عينُهُ، بعدَ أن ماتَ على الصليبِ وقُبِرَ، قامَ من بينِ الأموات. هو نفسُ الجسدِ، ولكنَّهُ قد "تَحَوَّرَ" (Transfigured) إلى جسدِ القيامةِ.
2. خصائصُ الجسدِ المُتَحَوِّر (المُمَجَّد)
أصبحتْ لهذا الجسدِ خصائصُ مُختلفةٌ عن طبيعةِ الجسدِ الأولى (قبلَ القيامةِ):
المادةُ والروح: هل كانَ لهُ لحمٌ وعظامٌ؟ نعم، كانَ لهُ لحمٌ وعظامٌ.
الوظائفُ الحيوية: هل كانَ يستطيعُ أن يأكلَ ويشربَ؟ نعم، كانَ يستطيعُ ذلكَ، ولكنَّ الفارقَ أنَّهُ لم يكنْ يحيا بالأكلِ، ولم يكنْ يموتُ بدونهِ.
القدراتُ الفائقة: كانَ يستطيعُ أن يطيرَ ويرتفعَ إلى السماءِ، وكانَ يستطيعُ الدخولَ والأبوابُ مُغلَّقةٌ.
لقد استعرتُ كلمةَ "تَحَوُّر" كترجمةٍ عربيةٍ دقيقةٍ لـ (Transfiguration)، لأنَّ الصورةَ قد تغيَّرتْ ودخلتْ في طَورٍ آخر. والتشبيهُ الذي في ذهني لتقريبِ الفكرةِ (وأعتذرُ إن لم يَرُقِ للبعضِ، فهو مجردُ تشبيهٍ): مثلُ الدودةِ التي تصيرُ شَرنقةً (عذراء)، ثم تتحوَّرُ لتصيرَ فراشةً جميلةً تطير. هكذا الجسدُ الواحدُ مرَّ بأطوارٍ من التغيير.

 

الجسدُ الروحانيُّ والشركةُ في المجد
استنادًا إلى تعليمِ القديسِ غريغوريوسَ والأنبا غريغوريوسَ، فإنَّ المسيحَ بعدما تغيَّرَ جسدُهُ إلى صورةِ القيامةِ، دخلَ بجسدِهِ إلى مجدِهِ.
1. ما هي صورةُ المجد؟
صورةُ المجدِ تعني أنَّ الجسدَ قد اتحدَ بكلِّ مجدِ اللهِ، فصارَ جسدًا روحانيًا. وهذا هو الرجاءُ الموضوعُ لنا أيضًا، فنحنُ سنتغيَّرُ إلى صورةِ جسدِ القيامةِ:

"هُوَذَا سِرٌّ أَقُولُهُ لَكُمْ: لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ الْبُوقِ الأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ الأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ." (1 كو 15: 51-52).
وعندما نُخطَفُ، سنتغيَّرُ ثانيةً إلى صورةِ مجدِهِ: "أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، الآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ اللهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ." (1 يو 3: 2).
"وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ." (2 كو 3: 18).
2. المعرفةُ الجديدةُ للمسيح
لذلكَ يقولُ الرسولُ بولسُ: "إِذًا نَحْنُ مِنَ الآنَ لاَ نَعْرِفُ أَحَدًا حَسَبَ الْجَسَدِ. وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا الْمَسِيحَ حَسَبَ الْجَسَدِ، لكِنِ الآنَ لاَ نَعْرِفُهُ بَعْدُ." (2 كو 5: 16). الآنَ، جسدُ المسيحِ أصبحَ جسدَ المجدِ، أصبحَ جسدًا روحانيًا، وأصبحَ: "مِلْءُ الَّذِي يَمْلأُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ" (أف 1: 23)، لكي يجمعَ كلَّ شيءٍ في المسيحِ ما في السماءِ وما على الأرض.
هذا الجسدُ المُمَجَّدُ هو الكنيسةُ، وهو الذي "نِلْنَا فِيهِ نَصِيبًا، مُعَيَّنِينَ سَابِقًا حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ" (أفسس 1: 11). هذا هو جسدُ المسيحِ المُمَجَّدُ الذي صارَ لنا فيهِ شركةٌ ونصيبٌ، ولولا هذهِ الشركةُ وهذا النصيبُ لما نلنا الخلاص.

 

سرُّ الأفخارستيا.. حضورُ الجسدِ المُمَجَّد
هذا الجسدُ المُمَجَّدُ هو الذي نتعاملُ معهُ الآنَ في الأسرار. والبعضُ يغيبُ عنهُ فهمُ هذهِ القاعدةِ اللاهوتيةِ الدقيقة.
1. تصحيحُ المفاهيمِ الماديةِ الساذجة
السؤال: هل تحوَّلَ الخبزُ إلى جسدِ المسيح؟ نعم، تحوَّل.
السؤال: هل القطعةُ التي تناولتها هي "جزء" من جسدِ المسيح؟ لا، ليستْ جزءًا، بل هي جسدُ المسيحِ كُلُّهُ.
الخطأ: من السذاجةِ أن نتخيَّلَ أنَّ تقسيمَ الخبزةِ يعني أننا نأخذُ قطعةً من إصبعهِ أو قطعةً من جنبهِ. هذهِ تصوُّراتٌ ماديةٌ قاصرةٌ لا تليق.
2. الحضورُ السريُّ الشامل 
جسدُ المسيحِ الذي تتخيَّلُهُ ماديًا قد صارَ جسدَ المجدِ. والآنَ، نحنُ نشتركُ في جسدِ المسيحِ المُمَجَّدِ. وهنا تبرزُ أهميةُ الصلاةِ السريةِ التي يُصلِّيها الكاهنُ (حلول الروح القدس): "نَحْنُ عَبِيدَكَ الْخُطَاةَ غَيْرَ الْمُسْتَحِقِّينَ... فَلْيَحِلَّ رُوحُكَ الْقُدُّوسُ عَلَيْنَا وَعَلَى هذِهِ الْقَرَابِينِ". 
لاحظوا الترتيبَ: الروحُ القدسُ يحلُّ علينا (نحن المجتمعين) وعلى القرابينِ. فيتحدُ الجسدُ المُمَجَّدُ بنا وبالقرابينِ بقوةِ الروحِ القدس. نحنُ نشتركُ في جسدِ المجد.
قد يعترضُ أحدُكُم قائلًا: "ولكن يا أبونا، أنتَ تقولُ في (الاعتراف) قبل التناول: (أُومِنُ أنَّ هذا هو الجسدُ المُحيي الذي أخذَهُ من سيدتِنا... العذراء مريم)؟".
نعم، أقولُ ذلكَ، وهو حق.
نعم، جعلَهُ واحدًا مع لاهوتِهِ بغيرِ اختلاطٍ ولا امتزاجٍ ولا تغيير.
نعم، لم يُفارقْ ناسوتُهُ لاهوتَهُ لحظةً واحدةً.
أنا لم أقُلْ لكَ إنَّ الجسدَ المُمَجَّدَ هو "جسدٌ آخر" غيرَ الذي أخذَهُ من العذراء. بل أقولُ لكَ إنَّ الجسدَ الذي أخذَهُ من العذراءِ مريمَ هو بعينِهِ الذي دخلَ الآنَ إلى مجدِهِ، وهو الذي نلنا فيهِ نصيبًا، وهو الذي يحلُّ الآنَ علينا وعلى هذهِ القرابين.

 

طبيعةُ التحوُّلِ (بينَ الماديِّ والروحي)
هل تحوَّلَ الخبزُ إلى جسدِ المسيح؟ نعم.
هل لم يَعُدْ خبزًا؟ لا، ما زالَ خبزًا (في أعراضِهِ المادية).
أتحدَّثُ هنا باسمِ الكنيسةِ الأرثوذكسيةِ الشرقيةِ التي أنتمي إليها. الكنائسُ الأرثوذكسيةُ عمومًا لا تقولُ بـ "التحوُّلِ الماديِّ" (بمعنى تغيرِ الخصائصِ الفيزيائية)، ولكنها تقولُ بـ "التحوُّلِ الروحيِّ" (السرِّي). وهناكَ صيغتانِ للتعبيرِ عن ذلك:
التحوُّلُ الجوهري: تحوُّلٌ في "الجوهر" مع بقاء "الأعراض" (الشكل والطعم) كما هي خبزًا، ولكنهُ جوهريًا صارَ جسدَ المسيح.
الحضورُ الحقيقي: التحوُّلُ روحيٌّ بمعنى أنَّهُ صارَ هناكَ حضورٌ حقيقيٌّ (Real Presence) للمسيحِ في سرِّ القربانِ المُقدَّس.
ما أشرحُهُ لكم يجمعُ هذهِ الصيغَ في فكرةٍ مركزيةٍ واحدةٍ: أننا نتحدُ بالجسدِ المُمَجَّدِ، وأنَّ الذي يحلُّ علينا وعلى القرابينِ هو جسدُ المسيحِ المُمَجَّدُ بالروحِ القدسِ.
تطبيقٌ رعويٌّ (إضافةُ كلمة "المُمَجَّد"): لأجلِ توضيحِ هذا المفهومِ، طلبتُ من إخوتي الكهنةِ في كنيستِنا أن نُضيفَ كلمةً توضيحيةً أثناءَ السجودِ للجسد. فبدلًا من أن نقولَ فقط: "نسجدُ لجسدِكَ المُقدَّس"، طلبتُ أن يقولوا: "نَسْجُدُ لِجَسَدِكَ الْمُقَدَّسِ الْمُمَجَّدِ"؛ وذلكَ لتنبيهِ أذهانِ المؤمنينَ إلى أنَّ الجسدَ الذي نشتركُ فيهِ هو جسدُ المجدِ، وليسَ الصورةَ الأولى للجسدِ اللحميِّ المحدود.
يُؤكِّدُ الرسولُ بولسُ هذا المفهومَ في رسالةِ كورنثوس الأولى:
"كَأْسُ الْبَرَكَةِ الَّتِي نُبَارِكُهَا، أَلَيْسَتْ هِيَ شَرِكَةَ دَمِ الْمَسِيحِ؟ الْخُبْزُ الَّذِي نَكْسِرُهُ، أَلَيْسَ هُوَ شَرِكَةَ جَسَدِ الْمَسِيحِ؟" (1 كو 10: 16).
"الخبزُ الذي نكسرُهُ": سمَّاهُ خبزًا؟ نعم.
هل الذي نمضغُهُ تحتَ أسنانِنا ما يزالُ خبزًا؟ نعم (بحسبِ تعليمِ الكنيسةِ الأرثوذكسية).
هل هو شركةُ جسدِ المسيح؟ نعم، وبالتأكيد.
كيف؟ لأنَّهُ صارَ هنالك حضورٌ حقيقيٌّ لجسدِ المسيحِ المُمَجَّدِ في سرِّ القربانِ المُقدَّس، وعلينا نحنُ المجتمعينَ لشركةِ جسدِه.

 

جوهرُ الإيمانِ الأرثوذكسيِّ في الأفخارستيا
أريدُ منكَ أن تفهمَ جيدًا الحقَّ وتعليمَ الكنيسةِ الأرثوذكسيةِ، وأن تحفظَ هذهِ الحقائقَ الثلاثَ وتتفاعلَ معها:
1. الخبزُ لم يتغيَّرْ (من حيثُ الأعراضِ الماديةِ).
2. التحوُّلُ هو تحوُّلٌ روحيٌّ وسرِّيٌّ.
3. جسدُ المسيحِ الذي نشتركُ فيهِ هو "جسدُ المجدِ" (الجسدُ المُمَجَّدُ).
وحدةُ الخبزِ والجسد
يقولُ الكتابُ: "فَإِنَّنَا نَحْنُ الْكَثِيرِينَ خُبْزٌ وَاحِدٌ، جَسَدٌ وَاحِدٌ، لأَنَّنَا جَمِيعَنَا نَشْتَرِكُ فِي الْخُبْزِ الْوَاحِدِ." (1 كورنثوس 10: 17).
كيفَ هو خبزٌ وكيفَ هو جسدُ الرب؟ هو خبزٌ لأنَّهُ في طبيعتِهِ الماديةِ لا يزالُ خبزًا.
نحنُ نقتسمُ الخبزَ الواحدَ، ولكنَّ اقتسامَنا وشركتَنا في هذا الخبزِ تحدُثُ بحضورِ الجسدِ المُمَجَّدِ في هذا الخبزِ، وفي سرِّ القربانِ المُقدَّسِ، وفينا نحنُ أيضًا.
دورُ الروحِ القدس: الذي يُوَحِّدُنا مع بعضِنا البعضِ، ويُوَحِّدُنا مع جسدِ المسيحِ، هو الروحُ القدسُ الذي يربطُنا بجسدِ المسيحِ المُمَجَّد.
أرجو أن تكونَ هذهِ النقطةُ قد اتضحتْ تمامًا، إزالةً لأيِّ التباسٍ لدى البسطاء: إنَّ الجسدَ (اللحمَ والدمَ) قد تحوَّرَ بالفعلِ إلى جسدِ المجدِ، ونحنُ نشتركُ في جسدِهِ المُمَجَّدِ هذا. وهذا الجسدُ المُمَجَّدُ هو عينُهُ المأخوذُ من العذراءِ مريمَ، الذي صارَ واحدًا مع لاهوتِه.
البُعدُ الجماعيُّ (الشركة)
مَن لم يفهمْ هذا الحقَّ، لم يفهمِ المسيحيةَ ولا الإنجيل. الإفخارستيا هي شركةٌ في المسيحِ، وهي أيضًا شركةٌ مع إخوتِك. المشكلةُ أنَّ البعضَ يذهبُ للتناولِ ليأخذَ المسيحَ منفردًا، غافلًا عن أنَّ الذهنَ يجبُ أن يكونَ مشغولًا بأنَّ هذهِ شركةٌ مع الإخوةِ أيضًا؛ لأننا "فَإِنَّنَا نَحْنُ الْكَثِيرِينَ خُبْزٌ وَاحِدٌ، جَسَدٌ وَاحِدٌ، لأَنَّنَا جَمِيعَنَا نَشْتَرِكُ فِي الْخُبْزِ الْوَاحِدِ." (1 كو 10: 17).


مفهومُ الخلاصِ.. بينَ الاتحادِ والمعمودية
كثيرًا ما يسألُني الأصدقاءُ غيرُ الأرثوذكس: "ألم تَنَلْ خلاصَ المسيح؟"
1. تصحيحُ مفهومِ الخلاص
ما تعلَّمناهُ في شبابِنا من أنَّ الخلاصَ هو "خلعُ الجسدِ ودخولُ السماءِ" هو كلامٌ غيرُ مسيحيٍّ، بل هو أقربُ للأفكارِ البوذيةِ (دخول النيرفانا). الكلامُ المسيحيُّ الصحيحُ: الخلاصُ هو الاتحادُ بالمسيحِ. ونحنُ قد نلنا هذا الاتحاد.
2. المعموديةُ كطريقِ الاتحاد
كيفَ تمَّ هذا الاتحاد؟
"أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ اعْتَمَدَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ اعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ؟ فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ... هكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ... لِيُبْطَلَ جَسَدُ الْخَطِيَّةِ، لِكَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضًا لِلْخَطِيَّةِ." (رومية 6: 3-6).
نحنُ نلنا خلاصَ المسيحِ بصليبِهِ، والمعموديةُ هي صليبُ المسيحِ؛ هي الاتحادُ بصليبِ المسيحِ.
عندما اعتمدتُ، أنا لم "أُغَطَّسْ" في مجردِ مياهٍ، بل "تَغَطَّسْتُ" في صليبِ المسيحِ (الموت). وبهذا نلتُ الخلاصَ بالمسيحِ يسوع.

 

حوارٌ لاهوتيٌّ هام (الأنبا غريغوريوس والخلاص)
أتذكَّرُ موقفًا حدثَ وأنا طالبٌ في السنةِ الأولى بالإكليريكية، حينَ سألَ أحدُ الزملاءِ نيافةَ الأنبا غريغوريوس في المُدرَّجِ الكبير: "يا سيدنا، هل يدخلُ الخمسينيونَ (البروتستانت) إلى ملكوتِ السماوات؟".
إجابةُ الأسقف: سألهم: "هل ينالونَ خلاصَ المسيح؟". ثم أجابَ: "نعم، ينالونَ خلاصَ المسيحِ ويدخلونَ الملكوت".
تعجَّبَ الطلبةُ، وسألَ الطالبُ: كيفَ يدخلونَ وهم غيرُ مُعَمَّدين؟!
أجابَ الأنبا غريغوريوس: لأنَّ الخلاصَ بالمسيحِ وليسَ بالمعمودية. المعموديةُ هي الاتحادُ بالمسيحِ، والخلاصُ هو بالمسيح".
(ملاحظة: هذا التمييزُ الدقيقُ كانَ لهُ سياقُهُ وظروفُهُ، وقد كتبَ نيافتُهُ مقالًا في هذا الموضوع في مجلة الكرازة). أما أنا، فأقولُ لكَ بحسبِ إيماني وممارستي: المعموديةُ هي الاتحادُ بخلاصِ المسيحِ.

 

الاستمراريةُ في التطهيرِ (غسلُ الأرجلِ المُتجدِّد)
نختمُ بالإجابةِ على السؤالِ الجوهري: إذا كنا قد نلنا الخلاصَ، فلماذا نُصلِّي في القداسِ طالبينَ الغفران؟
نقولُ في صلاةِ القسمةِ: "لِيَكُونَ لَنَا اتِّحَادًا مَعَكَ، وَشِفَاءً لِنُفُوسِنَا وَأَجْسَادِنَا وَأَرْوَاحِنَا". ويقولُ الكاهنُ عندَ توزيعِ الأسرار: "يُعْطَى عَنَّا خَلاَصًا وَغُفْرَانًا لِلْخَطَايَا وَحَيَاةً أَبَدِيَّةً لِمَنْ يَتَنَاوَلُ مِنْهُ".
الفرقُ بينَ التطهيرِ الكليِّ والغسلِ اليومي
هذا يعودُ بنا إلى ما شرحتُهُ في بدايةِ المحاضرةِ عن "غسلِ الأرجل".

  • غفرانُ الصليب: هو التطهيرُ الشاملُ الذي صنعَهُ المسيحُ بدمهِ مرةً واحدةً: "بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا" (عبرانيين 1: 3).
  • غفرانُ المسيرةِ (غسلُ الأرجل): أنا نلتُ التطهيرَ، ولكنْ كلَّ أسبوعٍ يجبُ أن أغسلَ قَدَمَيَّ. يجبُ أن أعترفَ وأتوبَ وأتطهرَ.

النموُّ في رؤيةِ الذات
مِمَّ أتطهر؟ من أشياءٍ لم أكنْ أراها سابقًا ولكنها كانت موجودةً في داخلي.
شهادةٌ شخصية: أنا الآنَ في السادسةِ والسبعينَ من عُمري، ولي ستونَ عامًا في تبعيةِ المسيح، ومع ذلكَ، لا أزالُ حتى اليومِ أكتشفُ كلَّ أسبوعٍ أشياءً في داخلي لم أكنْ أراها بالأمس.
هذا هو النموُّ في معرفةِ المسيحِ والاتحادِ به. كلما اقتربتَ من النورِ، كُشِفَتْ لكَ شوائبُ أدق. لذلكَ فالتطهيرُ وغسلُ القدمينِ مستمرانِ، رغمَ يقينِنا بأنَّ "الْمَسِيحَ فِيكُمْ رَجَاءُ الْمَجْدِ" (كولوسي 1: 27).
ثمرةُ المداومة
المداومةُ على الإفخارستيا المقرونةِ بالتوبةِ هي مداومةٌ على:

  • الاغتسالِ المستمر.
  • النموِّ في شركةِ الاتحادِ مع المسيح.
  • النموِّ في شركةِ الجسدِ (الجماعة) والإحساسِ بالآخرين.

لذلكَ، تجدُ الإنسانَ كلما كَبُرَ في الروحِ والسنِّ، تصيرُ مشاعرُهُ أكثرَ حنانًا، ودمعتُهُ قريبةً، لأنَّ القلبَ صارَ أكثرَ اتضاعًا، والشركةَ مع المسيحِ والحبَّ قد زادا. فأنا أنمو حتى اليومِ في هذهِ الشركةِ.

 

خطورةُ التناولِ بدونِ استحقاق (1 كو 11: 27-29)
"إِذًا أَيُّ مَنْ أَكَلَ هذَا الْخُبْزَ، أَوْ شَرِبَ كَأْسَ الرَّبِّ، بِدُونِ اسْتِحْقَاق، يَكُونُ مُجْرِمًا فِي جَسَدِ الرَّبِّ وَدَمِهِ. وَلكِنْ لِيَمْتَحِنِ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ، وَهكَذَا يَأْكُلُ مِنَ الْخُبْزِ وَيَشْرَبُ مِنَ الْكَأْسِ. لأَنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ بِدُونِ اسْتِحْقَاق يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ دَيْنُونَةً لِنَفْسِهِ، غَيْرَ مُمَيِّزٍ جَسَدَ الرَّبِّ." (1 كو 11: 27-29).
فهو ما زالَ خبزًا، وأنَّ جسدَ الربِّ المُمَجَّدَ قد حَلَّ علينا وعلى هذهِ القرابينِ.

 

 نتائجُ عدمِ التمييزِ ومعنى "التأديب"
يُشيرُ الرسولُ بولسُ إلى النتائجِ الوخيمةِ لعدمِ التمييزِ بينَ الخبزِ العاديِّ وجسدِ الربِّ المُمَجَّدِ:
"مِنْ أَجْلِ هذَا فِيكُمْ كَثِيرُونَ ضُعَفَاءُ وَمَرْضَى، وَكَثِيرُونَ يَرْقُدُونَ. لأَنَّنَا لَوْ كُنَّا حَكَمْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا لَمَا حُكِمَ عَلَيْنَا، وَلكِنْ إِذْ قَدْ حُكِمَ عَلَيْنَا، نُؤَدَّبُ مِنَ الرَّبِّ لِكَيْ لاَ نُدَانَ مَعَ الْعَالَمِ." (1 كو 11: 30-32).
1. هل اللهُ يُسبِّبُ الموتَ والمرض؟
قد يتبادرُ إلى الذهنِ أنَّ اللهَ هو الذي يُؤدِّبُ بالمرضِ والموتِ (التدرجُ: ضعفاء ومرضى ويرقدون). ولكنَّ كيفَ يجلبُ اللهُ الموتَ وهو حياةٌ لا موتَ فيهِ؟
"اَللهُ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَدًا." أي بالشرور (يعقوب 1: 13). 
مَن يَضرب؟ إنَّ كلَّ شرٍّ مصدرُهُ المُجَرِّبُ (إبليس)، إذ "كُلُّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا انْجَذَبَ وَانْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ." (يعقوب 1: 14).
إنَّ الكلامَ هنا موجَّهٌ إلى مَن لم يحكمْ على نفسِهِ، ومَن لم يتبْ، ولم يأخذْ غفرانًا. فلأنَّهُ لم يغتسلْ ويتغطَّ بغفرانِ المسيحِ، فإنَّ الشريرَ يتمكَّنُ منهُ ويضربُهُ بالمرضِ، وإذا لم يتُب، يضربُهُ بالموتِ.
2. المعنى الحقيقيُّ للتأديبِ الإلهي
إذًا، مَن الذي يَضربُ بالموتِ والمرض؟ إبليس.
فماذا يعني التأديبُ هنا؟ التأديبُ يعني أنَّ النعمةَ لم تجدِ الفرصةَ لكي تتدخَّلَ وتُحيطَ بالشخصِ لِتحميهِ من ضرباتِ إبليسَ وشكايتِهِ.
السبب: لأنَّ هذا الإنسانَ رفضَ أن يحكمَ على نفسِهِ ويغتسلَ من خطيئتِهِ بدمِ المسيح.
النتيجة: لستَ تحتَ الغفرانِ، وبالتالي لم تَعُدْ تحتَ حمايةِ وعهدِ البُنوَّةِ، بل خرجتَ إلى لذةِ الخطيئةِ، فهذا خلط للأوراق.
إذًا، التأديبُ هنا لا يعني أنَّ اللهَ هو الذي يضربُ، بل أن النعمة لم تجد الفرصة لأن تُخلِّصك، بمعنى أنَّ النعمةَ تخلَّتْ عنكَ (أو تَرَكَتْكَ) لأنكَ رفضتَ أن تدخلَ تحتَ الغفرانِ والحمايةِ المُقَدَّسَة.
أشكرُ الربَّ من أجلِ هذا التعليمِ والنورِ والفهمِ. الربُّ يُكمِلُكم جميعًا بالوحدةِ المُقدَّسةِ في شركتِهِ، وفي شركةِ جسدِهِ المُقدَّسِ مع كلِّ القديسين. لهُ كلُّ المجدِ في الكنيسةِ للأبدِ. آمين.

 

عنوان المحاضرة القادمة: "المسيح المنتصر"

Powered By GSTV