سوف لا نكون عادلين إذا لم نتفهم طبيعة العصور الغابرة، وهمجية الشعوب وسقوط الإنسان، وأن الحروب والقتل والسلب والاستقواء على الآخرين، كانت هي علامة سقوط الخليقة وتردي مستوى أخلاقيات البشرية. ولن نكون عادلين أيضاً، إذا لم نتفهم أن الأنبياء الذين قادوا البشرية في تلك الحقب المظلمة، إنما كانوا هم أفضل المتاح من نبت هذه الأرض وهذه المجتمعات، وأنهم لم يكن عندهم طريقة أخرى غير التي يستعملها سائر الناس في تعاملاتهم مع الآخرين.
ولكننا في الوقت نفسه سنكون مرائيين وغير صادقين، إذا أنكرنا أن السلطة المطلقة هي مفسدة، وأن هذه السلطة المطلقة التي كانت متاحة للملوك بسيف السلطان، كانت أيضاً مفسدة مطلقة للكهنة ورجال الدين على تنوع أشكال عبادتهم، ولكنها كانت هذه المرة مستندة إلى حق الوكالة والنطق باسم الإله، الأمر الذي أحدث ارتباطاً صميمياً بين الكهنة والإله الذي يتغطرسون باسمه؛ ومن ثم فإن ما حدث من الإنسان المعاصر في أوروبا من رفض للإلوهة (الإلحاد)، إنما كان في جوهره هو رفض للكنيسة ورجالها.
الموقف هنا في أمريكا مختلف عما حدث في أوروبا؛ فرجال الكنيسة في أمريكا كانوا أبناء عصر الحرية والحضارة، وعلى الرغم من بعض التجاوزات الأخلاقية التي حدثت من البعض، فإن المجتمع كان قادراً على أن يتفهم أنها سلوكيات تخص أصحابها، ولا يمكن أن تُعمم على كنائس قادتها أناس متحضرون، لكن الفخ الخطير الذي استيقظت عليه الكنيسة الأمريكية في نهايات القرن العشرين وبدايات الواحد والعشرين، كان قد زُرع لها منذ بدايتها في أمريكا، ومنذ بداية أمريكا نفسها.
جورج واشنطن أول رئيس لأمريكا، كان كاهناً ماسونياً من الرتبة ال٣٣ (أي أعلى رتبة) ومثله كان الكثيرون من الرؤساء الأمريكيين، وأن الماسونيين كانوا هم المؤسسين لأمريكا والمشاركين في كتابة دستورها، وكل هذا لم يرى أحد فيه أي مشكلة، طالما أن الدستور تأسس على حرية الإنسان وحرية العقيدة؛ ولكن الفخ الذي لم ينتبه إليه أحد، إلا بعد فوات الأوان، هو إقرار اتفاق التآخي الأمريكي بين المسيحية واليهودية، مع التوجه الصهيوني المسيحي العميق لاختراق الكنيسة الأمريكية؛ شهد واحد من أقطابهم أن الصهيونية المسيحية أقوى بكثير من الصهيونية اليهودية!
ومن ثم فقد أتى الأوروبيون إلى أمريكا يحملون الكتاب المقدس، الذي جُمعت فيه التوراة والكتب اليهودية مع إنجيل المسيح وعهده الجديد في مجلد واحد، منذ أن اُخترعت المطبعة في ألمانيا، وطُبعت هذه التجميعة للموروث اليهودي مع العهد الجديد المسيحي في مجلد واحد سنة ١٤٥٥.
وسارت الأمور بهدوء خلال قرنين من الزمان، تشبعت فيه الكنيسة الأمريكية ورعاتها بالتوراة والكتب اليهودية، حتى صارت عظة الأحد في غالبية الكنائس مؤسسة على قراءات من التوراة والكتب وأنبياء العهد القديم، بل وأعيد تفسير وفهم العهد الجديد بناء على الخلفية اللاهوتية والتاريخية التي في العهد القديم! وهكذا ظل اسم المسيح يُذكر في الكنائس مع أيات مقتطفة في الإنجيل، ولكنها مخضعة ومستعبدة لذهنية التوراة وكتب اليهود وأنبيائهم.
حتى تبنت الكنيسة المسيحية ورعاتها التبشير بالتوراة والدفاع عنها، مما جعلها تطغي على لاهوت العهد الجديد نفسه؛ حتى جاء وقت الحصاد، وهو ما تحقق في أواخر القرن العشرين بخطة مدروسة ومُعدة: أن وُجهت الأسئلة النقدية لتشريعات التوراة - التي مر عليها أكثر من ٦٠٠٠ سنة – وحروب ومذابح الملوك والأنبياء في عصورهم الغابرة إلى الكنيسة ورجالها الذين أخذوا على عاتقهم الدفاع عن التوراة، أو بالأحرى تم تهويدهم بفعل الصهيونية المسيحية؛ فحينما أتيت إلى أمريكا في أول زيارة قبل ٣٥ سنة، كان أول سؤال وُجه إليّ هو: كيف يأمر الله بذبح أطفال أريحا!؟
الصورة لم تكن واضحة أمامي على النحو الذي وصفته لكم الآن؛ فقد اعتبرته مجرد سؤال دون أن أدرك أن العاصفة كانت في بدايتها، ولكنني لما عدت إلى أمريكا سنة ٢٠٠٨، واستقر وجودي بها، تبين لي بعد ذلك أن خطة الصهيونية المسيحية مع الماسونية قد أثمرت حصادها ونتائجها؛ فقد وُجهت الأسئلة إلى رعاة الكنائس المسيحية عن أحداث وتشريعات التوراة الدموية، وصورة الله المخيفة القاسية التي صارت ممجوجة ومرفوضة في عيون الفلاسفة ونضج وتطور العقل الإنساني والحريات الإنسانية؛ فلم يستطيعوا أن يجيبوا على الأسئلة، ولا أن ينسحبوا من تبنيهم للتوراة وتشريعاتها، بعدما أقروا أنها جزء من كتابهم المقدس!
فحركة الإلحاد والهجرة الجماعية من الكنيسة في أوروبا، كان سببها خطاب الكنيسة وتصرفات رجال الدين، أما حركة الإلحاد التي اجتاحت أمريكا في النصف قرن الفائت، فكانت بفعل الماسونية والصهيونية المسيحية، مستخدمين تاريخ الموروث اليهودي وتشريعات التوراة التي تبناها المسيحيون كأساس لإيمانهم ولكتابهم المقدس، تشويشاً على إنجيل المحبة والسلام، الذي أضمحل في أفواههم إلى جوار أحكام التوراة المتناقضة معه، فصار إلههم هو إله العنف والقسوة وسفك الدماء، وكتابهم المقدس هو كتاب المتناقضات، في عيون شبابهم الذي غادرهم بسرعة وبسهولة، ليرتمي في أحضان العالم وخداعات الغواية.
ما يزال البعض من رجال الكنيسة في شرقنا، يمارسون نفس الدور الذي مارسه غيرهم سواء من الغطرسة الكهنوتية؛ كما حدث في أوروبا أو من تبنى الدفاع عن الموروثات اليهودية وتشريعات التوراة – كما حدث في أمريكا – التي تحض على قتل الأخ لأخيه المرتد وتأمر بسبي النساء والأطفال، ونجاسة الطامث ...إلخ.
ولكنني لا أرى أن نفس النتيجة التي صارت في أوروبا وأمريكا من مغادرة الكنيسة إلى الإلحاد؛ هي التي ستحدث معاصراً في شرقنا، لأننا نمتلك الآن حركة لاهوتية تجديدية مؤسسة على لاهوت الآباء، وإعلان حق الإنجيل؛ ومن ثم فإن المغادرة لن تكون من كنيسة العتيق إلى الإلحاد، كما حدث في أمريكا وأوروبا؛ ولكن المغادرة ستحدث قطعاً وبالتأكيد، وستكون من العتيق إلى الجديد، ومن الحرف إلى الروح القدس، ومن التوراة وقديمها إلى استعلان حق الإنجيل، ومن لاهوت العصور الوسطى إلى لاهوت الآباء الأولين، ومن تدين لا يفعل شيئاً للبشر ولا يهب حياة للإنسان ولا خلاص للخطاة؛ إلى كنيسة المسيح الحية التي يتمجد ويعلن ذاته فيها، ويستقبل فيها بأحضان محبته خرافه الحية، لتكون رعية واحدة لراعٍ واحد.
" أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف." (يو١٠ : ١١)
" ولي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة، ينبغي أن آتي بتلك أيضا فتسمع صوتي، وتكون رعية واحدة وراع واحد." (يو ١٠: ١٦)