بعدما حكم رجال الدين أوربا باسم السلطان الديني، وحرقوا المعارضين أحياء، وأمروا بإعدام المتهمين بالهرطقة إغراقاً في النهر، في محاكم التفتيش، وبعدما تهاوى عرش السلطة الدينية؛ خرج فلاسفة يعلنون التمرد على الدين وعلى الإله. فها الفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه) يعلن: موت الله! وأن هذه الكنائس ما هي إلا قبور الله!
تصريحات نيتشه المسرفة في الإلحاد بطعم الانتقام من رجال الكنيسة في شخص الإله، الذي ارتكبوا باسمه التسلط والغطرسة على البشر، تعكس عند البعض استهجاناً لما يرونه تجديفاً على الله؛ بينما يرى البعض الآخر أنه يعبر عن قناعاته، ويقولون ليس الحل في الرد على نيتشه هو الاستهجان، ولكن الحل هو أن تبرهن له ولغيره أن الله حي وفاعل وموجود بالبرهان العملي؛ الأمر الذي عجز عنه رجال الدين في عصره، وفي غير عصره.
فقد أعتمد رجال الدين على خطاب النصوص والموروثات الدينية، وما تحمله من التهديد والوعيد بعذاب النار للكافرين من أمثال نيتشه وغيره، دون أن يستطيعوا أن يتجاوزوا هذه الأدوات التي اعتادوا عليها ليؤكدوا بها على وجود الله، ومن ثم على حقيقة عذاب النار، غير واعين إلى أن هذا النوع من الخطاب يضاعف من حالة الرفض لهم، وللإله الذي يتكلمون باسمه، الذي يعجز عن الرد بأسلوب مختلف عن التخويف بالغيبيات، ويعلن بطريقة عملية وواقعية أنه حياً لا يموت، وأنه محباً لخليقته وحريصاً على رعاية شئونهم بطريقة حقيقية وتطبيقية، على النحو الذي تخبر به الكتب والموروثات الدينية.
الكتاب المقدس يخبر في سفر الخروج من العهد القديم، أن الفرعون العبراني موسى النبي قاد انتفاضة، حرر بها الشعب العبراني من العبودية في أرض مصر، وأخبر شعبه أن إله أباءهم، الذي اسمه "يهوه" قد ظهر له، ووعده بأن يعطيهم (أي للشعب اليهودي) أرض الكنعانيين والحثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين.. وأن الله سيطرد هذه الشعوب من أمامهم، ويوطنهم مكانهم في هذه الأراضي.
وبعدما أراهم بروقاً ورعوداً على رأس الجبل، وأتى بعدها بلوحي الشريعة، وكتب لهم سفر التثنية، مات موسى، وتولى من بعده تلميذه يشوع بن نون قيادة الشعب؛ فلما أتوا إلى الأرض التي وعدهم موسى بأن الله سيعطيها لهم، ويطرد منها الأمم الأشرار الساكنين فيها؛ فوجئوا بأن البروق والرعود وملاك النار والمعجزات التي أُخبروا عن حدوثها مع موسى في شق البحر أمام عيون أباءهم، قد اختفت من المشهد ومن الساحة تماماً، ولا يوجد أي نزول للملائكة، ولا للمعجزات، ولا البروق والرعود التي أُخبروا عنها، التي كان من المتوقع أن تحدث حتى يطرد الرب إلههم هذه الأمم كما وعد موسى؛ فيدخلون إليها، ولكنهم وجدوا أن يشوع بن نون يسلحهم بالسيوف والرماح، ويأمرهم بالحرب والقتال، لإبادة أو استعباد وسبي نساء وأطفال هذه الشعوب، وقد كان. ودارت رحى الحرب بينهم وبين سكان هذه الأرض حتى استولوا عليها كلها؛ دون أن تبدو في الأفق أي إجابة على السؤال الذي طرحه نيتشه بعد ذلك بقرون: أين هو الرب إلهكم؟ ولماذا لم يقم بطرد هذه الشعوب كما وعدكم، بدلاً من أن تتحولوا إلى شعب من القتلة والمغتصبين للنساء والأطفال!؟ وهل لم يستطع الرومان الوثنيين، ومن قبلهم الأشوريين والبابليين أن يفعلوا بكم ما فعلتموه مع غيركم بالحرب والسيوف والرماح؟ فأين البرهان على قوة الله؛ وأين هو الله من كل هذا!؟
المثير للغثيان وتقزز العقل الإنساني هو أن تاريخ هذه الحروب والغزوات، التي سفكت الدماء، وسبت النساء والأطفال، صار فيما بعد موروثاً مقدساً تتوارثه الأجيال، جيلاً بعد جيل؛ ومن يتمرد عليه أو يتساءل: أين هو الله من هذا التاريخ الدموي؟ أو ما معنى الإيمان بإله غائب لشعب يقتل وينهب ويسبي النساء باسمه، أين هو الله!؟
لما ظهر المسيح بعد ذلك بآلاف السنين، بين هذا الشعب الذي كان متفاخراً بتاريخ مخزىٍ ومؤلم للعقل الإنساني الناضج، وبشريعة لم تكمل شيئاً (عب ٧ : ١٩)، ولم تستطع أن تمنح البر لأحد (غل ٢: ٢١)؛ فجال يشفي المرضى، ويفتح عيون العميان، ويطهر الأبرص، ويقيم الموتى، ويشبع الجموع، ويجد في إثر الخطأة، ليستردهم، ويعطي حياة وفرحاً للبائسين، ثم يقف في وسطهم، قائلاً: "إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي." (يو ١٠: ٣٧)؛ بل وهكذا صارت أعماله ممتدة منه إلى تلاميذه على مدى الأجيال حتى اليوم، شاهدة أن هذه هي أعمال الله، التي لا يقوى عليها بشر، وأن الله حي وفاعل وموجود ومحب ومشفق على آلام الإنسان.
أرني بإيمانك أعمالك، وأنا أريك بأعمالي إيماني؛ لم يعد الكلام والوعيد والتهديد بالنار والقمع بالسيف والسلطان، بقادر على أن يقنعوا الإنسان بالإيمان بالله؛ فحتى لو برهنت له من الشواهد الطبيعية والعلمية بحتمية وجود إله وخالق لهذا الكون، فإجابة (سارتر) مازالت قائمة: "أبانا الذي في السماوات، أبق فيها".
لم يعد الإنسان بحاجة إلى تهديد ووعيد وتخويف، بل بحاجة إلى إله حي، لم يمت في قلوب البشر، والذي قتله في قلوبهم هم رجال الدين، الذين يتحدثون عنه بموروثات لا تشفي، ولا تسمن من جوع، ولا تجيب على احتياجات الإنسان، ولا تمنحه الفرح والسلام؛ بل يبرهنون كل يوم بحياتهم وكلامهم على أن احتجاج نيتشه ما يزال يحتاج إلى البرهان المقنع: أن الله حي، وموجود في حياة البشر.
"إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي." (يو ١٠: ٣٧)
"من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضا، ويعمل أعظم منها، لأني ماض إلى أبي." (يو ١٤: ١٢)
لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "التفكير ليس ممنوعًا" اضغط عالرابط التالي