حفل التاريخ الإنساني حتى يومنا هذا بقصص تدخلات الله المعجزية في حياة البشر من أجل خلاصهم ونجاتهم من الموت والمخاطر والظلم والشرور، على أن السمة المشتركة في كل هذه التدخلات الفوقانية في ظروف الناس، إنما كانت تعبيراً عن محبة الله للإنسان، وإنقاذه من خطر أو شر أقوى منه؛ ولكن أن ينقل لنا التاريخ الديني على مدى العصور مئات من القصص التي تخلو من التعبير عن محبة الله للإنسان، بل تذهب إلى النقيض الذي هو الكراهية والقتل وسفك الدماء، فمثل هذه القصص والروايات التي تم تغليفها في إطار ديني، وتمت نسبتها إلى القوة الإلهية العليا، فإنما تشهد على نفسها بأنها أقرب إلى الخرافة منها إلى الإيمان، بأنها لا تعلن محبة الله، بل تعلن أنانية الإنسان وسفك الدماء.
فيشوع ابن نون الذي كتب السفر المُعنون باسمه في العهد القديم، الذي أخبرنا أن الله أمره بذبح أطفال أريحا، طبعاً مع والديهم (يش ١١: ١١)، هو نفسه يخبرنا في نفس السفر أنه قال: "يا شمس دومي على جبعون، ويا قمر على وادي أيلون" (يش ١٠: ١٣)، فوقفت الشمس في كبد السماء، ولم تَعجَل للغروب نحو يوم كامل ... حتى انتقم الشعب من أعدائه.
هذا الكلام كُتب في عصور، كان البشر فيها يتصورون أن الشمس والقمر معاً يدوران حول الأرض الثابتة، ومن ثم فقد أصدر يشوع إليهما أمراً بأن يتوقفا عن الدوران وينتظرا في مكانهما في كبد السماء، والهدف هو أن يستكمل مهمة القتل والذبح في أعدائه.
فلو كان من المقبول أن يكون الله هو الذي أمره بقتل أطفال أريحا، فسيكون من المحتمل مناقشة الأمر بلغة عصره؛ ناهيك عن ما سينجم عن مناقشة هذه الحادثة بلغة العصر؛ فسؤال واحد لوكالة ناسا: ما الذي سيحدث للكرة الأرضية إذا توقفت عن الدوران لمدة نصف ساعة، وليس يوماً كاملاً، أو ما الذي يمكن أن يحدث إذا توقف القمر عن الدوران حول الأرض. عوام الناس يجهلون أن حركة الدوران المستمرة للكواكب حول شمسها، بإحداث التعادل بين الجاذبية الشمسية والطرد المركزي، هي التي تعلق الكواكب في الفضاء، ولكن المشكلة ليست في معلومات عوام الناس، ولا في معلومات يشوع ابن نون نفسه عن الكون، ولا في روايته عن توقف الأرض والقمر عن التوقف عن الدوران لينتقم من أعدائه، ولكن المشكلة تكمن في أن هذا الكلام صار منسوباً للوحي المقدس ولله نفسه، ورغم غرابة هذه الموروثات؛ فإن عاقلاً من المؤمنين لم يتجرأ أن يتسائل: أن هذا مستحيل الحدوث، لسبب بسيط هو أن تغليفها بقداسة الموروثات الدينية طمست عقول المؤمنين ومنعتهم من التفكير، حتى صار مزج الخرافة بالإيمان أمراً شائعاً ومتكرراً في كم لا يُحصى من الموروثات الدينية على اتساع التاريخ وتنوع الأديان.
الموروث اليهودي نقل إلى باقي الأديان من بعده، فكرة أن يونان النبي كان حياً في بطن الحوت طوال الثلاثة أيام، ولم يُصاب باسفكسيا الغرق في جوف الحوت وجوف البحر، ولما قلنا لهم أن يونان نفسه كتب في سفره يقول "صرخت من جوف الهاوية، فسمعت صوتي." (يو ٢:٢)
قالوا لنا أن كلمة "الهاوية" في العبرية "شاؤول"، وإنها تعني أبضاً "القبر"، وأن الحوت صار قبراً ليونان، فهو بهذا المعنى يقول "صرخت من جوف الهاوية"، للتأكيد أنه كان حياً، ولم يناله الأختناق والغرق في أعماق البحر وجوف الحوت.
وصدق الجميع الرواية والموروث اليهودي، بما في ذلك المسيحيين الذين قراوا في الإنجيل أن المسيح له المجد يقول: "جيل شرير وفاسق يطلب آية، ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي. لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال." (مت ١٢: ٣٩-٤٠)
فهل كان المسيح في القبر ميتاً وقام من الموت بعد ثلاثة أيام، أم أنه لم يكن ميتاً في القبر، وليست هناك قيامة من الأموات!؟
المسيح هنا يشبه ويقارن بين حادثة يونان وبين موته ودفنه في القبر ثلاثة أيام، ثم قيامته من بين الأموات؛ إذن فيونان حينما ابتلعه الحوت مات في جوف الحوت، ومن ثم فكلام المسيح له المجد، ومقارنة حادثة يونان بدفنه وقيامته تعني أن يونان بعدما مات واختنق في جوف الحوت، حدثت له إقامة من الموت، وإلا لما صار مثالاً لموت المسيح ودفنه وقيامته، لو كان قد ظل حياً في جوف الحوت طبقاً للموروث اليهودي!
ما أتعجب منه أن كلمات المسيح له المجد وتشبيهه قيامته من الأموات بقصة يونان، واضحة وضوح الشمس في منتصف النهار، لكل من عنده الحد الأدنى من البصيرة والتفكير؛ أما كيف استطاع الموروث اليهودي أن يطغي على العقل الإنساني، بما في ذلك العقل المسيحي، ويجبره على ألا يصدق كلمات المسيح في الإنجيل الواضحة، ثم يصدق الموروث اليهودي بدلاً منها؛ فهذا أمر يحتاج إلى مراجعة مئات الموروثات في التاريخ والتقليد والتسليم اليهودي، بما في ذلك كتبهم المقدسة التي تتعارض وتتناقض مع حق وتعليم الإنجيل، وإذا لم تفعلوا هذا، فلن يفيدكم المسيح شيئاً. (غل ٥: ٢)
رجال الدين في كل الأديان يخشون المواجهة مع إعمال العقل ومراجعة التراث والفكر الذي انحدر إليهم من عصور كانوا فيها محدودي الفكر والثقافة والمعرفة، بحجة أنهم إذا رجعوا عن الفكر الماضوي والموروثات اليهودية التي نشأوا عليها، فسيظهرون أمام مؤمنيهم بمظهر الضعف والجهل والهزيمة، لأنهم ظلوا طوال هذه السنين يكررون ويدافعون عن هذه الموروثات؛ بينما في رأيي ومن خلال تجربتي وخبرتي، فإنهم سينالون توقيراً وإجلالاً أكبر من مؤمنيهم، على شجاعتهم وانحيازهم للحكمة والعقل على حساب الخرافة، ومسلمات صارت غير معقولة ولا مقبولة؛ بينما لو ظلوا مصريين على قديمهم، فإن الاستنارة التي لا يستطيع أحد أن يوقفها، وإعمال العقل الذي صار نبراساً للاستنارة والمعرفة لإنسان العصر، سوف يواجهانهم بالحقيقة التي لن تكون في صالحهم أبداً.
لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "التفكير ليس ممنوعًا" اضغط عالرابط التالي