لاهوت العهد الجديد (٤) | الآبُ السَّماويُّ المُحِبُّ
Jun 29, 2025 9
980 79

لاهوت العهد الجديد (٤) | الآبُ السَّماويُّ المُحِبُّ

لا أظُنُّ أنَّ ثمةَ موروثًا دينيًّا أكثرَ انتشارًا من قصةِ الطوفان في أيامِ نوحٍ؛ فقد رُوِيَتْ هذه القصةُ في التوراةِ (الموروثُ اليهوديُّ)، والإنجيلِ (الموروثُ المسيحيُّ)، والقرآنِ (الموروثُ الإسلاميُّ). وطبقًا لسفرِ التكوينِ، خلقَ اللهُ عالمًا جميلاً متكاملاً، وسلط عليه الإنسانَ، ورأى أنَّ ما خلقَتْهُ يداهُ حسنٌ مُرضٍ ومُبهجٌ لِلكليِّة. ولكنَّ سفرَ التكوينِ يفاجئنا بأنَّ اللهَ نَدِمَ وتأسَّف على خلقِ الإنسانِ حينَ صارَ شريرًا وفكَّرَ قلبُهُ شرًّا، فقرَّرَ ـ بغَيْر تردُّدٍ ـ إبادةَ الجنسِ البشريِّ بطوفانٍ عظيمٍ أغرقَ الأرضَ بكلِّ ما عليها، فأهلكَ الحيواناتِ والطيورَ سويَّةً، ولم ينجُ من ذلك إلا نوحٌ وأسرتهُ مع عيِّناتٍ من المخلوقاتِ التي اصطحبها معه في الفلك.
رغمَ أنَّ علماءَ الآثارِ لا يساندون الروايةَ التوراتيةَ حرفيًّا، إلا أن إنجيلَ العهدِ الجديدِ يذكرُ حادثةَ الطوفانِ على لسانِ السيد المسيحِ – له المجدُ – بلفظٍ مبنيٍّ للمجهولِ: "جَاءَ الطُّوفَانُ وَأَهْلَكَ الْجَمِيعَ." (لو 17: 27)، بينما تنسبُ التوراةُ هذه الإبادةَ إلى اللهِ خالقِ الكونِ، الذي آثرَ القضاءَ الشاملَ لأنَّ البشريَّةَ غاصتْ في الشرِّ وأعرضتْ عن الله.
وهكذا ترسَّخ في وَعيِ أغلبيَّتنا صورةُ إلهٍ مُخيفٍ قاسٍ، لا يرحمُ مَن يشقى في ضلالِه، ما دام حصل على إنذارٍ مسبقٍ على يدِ نوحٍ. وأظنُّ أنَّ وعيي الشخصيَّ ما اختلفَ في هذا الصددِ عن وعي الآخرينِ الذين تربَّوا مثلي على التوراةِ وعهدِها القديم.
قد يحتجُّ بعضُ القرَّاءِ بأنَّ الإنجيلَ نسب الطوفانَ إلى المبنيِّ للمجهولِ، لا إلى الله مباشرةً، فيسألون: "فمن ذا الذي يقدرُ على هذا الدمار العظيمِ إنْ لم يكن الله؟" وكان هذا الاحتجاجُ مقبولًا في عصرِ الجهل، لكنَّ تطوُّرَ العلمِ أظهرَ أنَّ الأعاصيرَ والفيضاناتِ والكوارثَ ناجمةٌ غالبًا عن تغيُّرِ المناخِ والتلوثِ البيئيِّ، لا عن فعلٍ إلهيٍّ مباشرٍ.
جاءَ المسيحُ ليُعلنَ للبشريةِ صورةً جديدةً عن اللهِ: "أَنَا أَعْرِفُهُ لأَنِّي مِنْهُ، وَهُوَ أَرْسَلَنِي." (يو 7: 29)، "لَيْسَ أَنَّ أَحَدًا رَأَى الآبَ إِلاَّ الَّذِي مِنَ اللهِ. هذَا قَدْ رَأَى الآبَ." (يو 6: 46)، وهذه مقاربةٌ مغايرةٌ تمامًا للتوراةِ التي تقر أن موسى لم ير الله: "لأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ." (خر 33: 20). وبينما يخلطُ بعضُ المسيحيينَ اليومَ بين اليهوديةِ والمسيحيةِ والعهدين القديمِ والجديدِ في مجلدٍ واحدٍ يُسمّى "الكتابُ المقدَّسُ"، فإن ثمةَ فارقٌ جوهريٌّ بين إعلاني العهدين عن ذاتِ اللهِ الواحدِ.
فهل أعلنَ المسيحُ عن إلهٍ آخرَ غيرَ إلهِ العهدِ القديمِ؟! حاشا! إنَّ اللهَ واحدٌ لا يتغيَّرُ، لكنَّنا أمامَ إعلانين مختلفينَ لذاتِ الإلهِ الواحدِ: إعلانٌ في العهدِ القديمِ لرجلٍ لم يَرَ اللهَ (موسى)، وإعلانٌ في العهدِ الجديدِ لابنٍ رآه وعرفه (المسيح).
أعلنَ المسيحُ أنَّ اللهَ هو الآبُ السماويُّ المُحبُّ، الذي خلقَ الإنسانَ بدافعِ محبَّتهِ، ليكونَ لهُ شريكًا في مجدهِ. ولما أضاعَ الإنسانُ صورةَ البَهاءِ والمَجْدِ والقداسةِ، أرسلَ اللهُ ابنهُ الوحيدَ نوره الحقيقيَّ في الجسدِ بيسوع المسيحَ، ليُعيدَ للإنسانِ النورَ والبهاءِ والحياةَ الإلهيةَ، والشركة مع اللهِ من جديدٍ.
ويمكنُ لكلِّ إنسانٍ أن يستعيدَ ويَقْبَلَ محبةَ اللهِ ونورهُ الحقيقيَّ في عقلهِ وقلبه ونفسه وأيضًا جسده، إذا ما اتَّفقتْ حريةُ إرادتهِ مع إرادةِ محبةِ اللهِ، باختياره أن يخرجَ من ظلماتِ الشقاءِ والموتِ إلى نورِ الآبِ السماويِّ في ابنهِ يسوع المسيحَ.

بنسلفانيا – أمريكا
١٠ يونيو ٢٠٢٥

لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "لاهوت العهد الجديد" اضغط على الرابط التالي:
https://anbamaximus.org/articles/NewTestamentTheology

Powered By GSTV