حينما نقرأ بعيون العقل المعاصر تاريخ وموروثات الأقدمين، فلربما لا نكون عادلين في أحكامنا عليهم؛ فهمجية القتل وإغارة القبائل على بعضها، وأسلوب التحقير من المرأة، ومعاملتها معاملة المتاع، وأشكال القمع الأبوي الديكتاتوري - لرب الأسرة أو شيخ القبيلة أو الملك - التي تبدو في عيوننا مستهجنة وغير مقبولة، فإنها كانت بالنسبة لعصور الهمجية والتخلف منهاجاً شائعاً لأسلوب الحياة.
ولكن الطامة تبلغ ذروتها حينما يتبنى إنسان العصر الحاضر أساليب العصور الغابرة، كما فعلت داعش في العراق والشام، وشكلت مليشيات مدججة بالسلاح، وهاجمت البلدان الإيزيدية من مواطنيهم العراقيين، ومارست أبشع وأحقر سلوكيات البشر نحو نساء الإيزيدين بوصفهن سبايا وغنائم حرب لهم، في القرن الحادي والعشرين!
الجدال بين الماضويين والعصريين حول هذه السلوكيات المشينة، لم يُحسم بعد؛ ففي الوقت الذي فيه رأى البعض في تطبيق همجية العصور الغابرة في العصور الحاضرة؛ شكلاً من أشكال العته وتغييب العقل؛ رأى غيرهم أن ما فعله الداعشيون بالإيزيديين كان مبرراً بطريقة فهمهم لمعتقدات دينية بعينها.
الحكم القاطع على الدواعش لا يدخل في دائرة اختصاصنا، طالما أنهم قد رفعوا راية التمسك بموروثات دينية بعينها، بل يصير الحكم عليهم حينذاك، من اختصاص قادة رجال الدين الذين رفعوا راية الرجوع إليه.
ولكن ما يعنينا نحن هنا هو ما يدخل في دائرة اختصاصنا، أعني الكتاب المقدس، وما ورد في التوراة الكريمة في سفر التثنية (٢٠: ١٠-١٤)
"حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح، ١١ فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك. ١٢ وإن لم تسالمك، بل عملت معك حربا، فحاصرها. ١٣ وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. ١٤ وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها، فتغتنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك."
وكما ذكرت الآن فإن الحكم على شريعة تبعد عنا أكثر من ستة آلاف سنة من التخلف والهمجية، بعيون الإنسان المعاصر، لن يكون حكماً عادلاً تماماً.
ولكن المشكلة التي تواجهنا هي أن هذا الموروث الذي يراه الإنسان اليهودي صحيحاً ومقدساً، ليس فقط أنه يتصادم مع العقل الإنساني، ولكنه يتعارض مع إنجيل المسيح وعهده الجديد؛ فالعهد الجديد يقرر في (عب ٧: ١٢) أن مجيء كهنوت المسيح نتج عنه إحلال شريعة (ناموس) جديدة تحل محل القديمة؛ بل أن المسيح نفسه له المجد أعلن أنه جاء بوصية جديدة (يو ١٣: ٣٤) وأعطى التعليم والمنهج الأكمل.
ومن هنا يبدأ الحكم والسؤال: هل يؤمن المسيحيون بإنجيل المسيح ويتبعون تعاليمه؛ أم إنهم يؤمنون بالتوراة ويتبعون تعاليمها!؟
الاختيار الثالث هو أن يؤمنوا بكليهما، على الرغم من التناقض الواضح والصريح - الذي لا تخطئه العين – بين ما قالت التوراة أنه أقوال الله؛ والتي يقولها المسيح له المجد "كلمة الله الأزلي" الذي يقول صراحة: أن أحداً غير لم يرى الله، وأنه هو الوحيد الذي رأه، وسمعه، وعرفه، وهو الوحيد الذي نزل من السماء. (يو ١: ١٨) (يو ٧: ٢٩) (يو ٣: ١٣)
ومن هنا لا يصبح الجدل اللاهوتي هو: هل كان اليهود على حق في حروبهم أم لا؟ ولا هل أوحي إلى موسى أم لا؟ وهل التوراة هي أقوال الله أم لا؟، ولكن يصبح السؤال الجوهري: هل أنتم مسيحيون أم لا!!؟
فإذا كانوا مسيحيين، فها هي أقوال المسيح في الموعظة على الجبل، وها هو منهج المسيح وتعاليمه في الإنجيل، يصرخون في وجوههم: كلا، أنتم لستم مسيحيين، فالمسيحي هو من يتبع المسيح ويطيع تعاليمه، بخلاف اليهودي الذي لا يعترف بكلام المسيح ولا بإنجيله، ولكنه يتمسك بتوراته وموروثاته اليهودية.
أما أولئك الذين يجمعون بين التوراة والإنجيل في إيمان واحد، يتحدى إعلان الإنجيل وعهده الجديد بإصرارهم على الإيمان بالقديم، رغم وضوح الجديد ضدهم، ومناقضاً للقديم! فأنا لن أصدر حكماً عليهم، وليس من شأني أن أدينهم، فشأني هو أن أخدم المسيح، وأعلن حق الإنجيل؛ أما الحكم عليهم فهو متروك للعقل وللحكماء!
لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "التفكير ليس ممنوعًا" اضغط عالرابط التالي