السؤال المطروح الآن هو: هل قد وصلنا إلى عصر نهاية الأديان!؟
هذا السؤال ليس تحديًا ولا تشكيكًا في قوة الأديان، بل هو سؤال قديم قدم التاريخ، وقد طرحه المسيح له المجد نفسه: متى جاء ابن الإنسان (المسيح) هل يجد الإيمان على الأرض؟ (لو ١٨: ٨)؛ فهو إذن سؤالاً مشروعًا منذ القديم؛ ويصبح السؤال أكثر أهمية في المتغيرات المعاصرة في هذا الحاضر.
تعرضت المسيحية الأرثوذكسية في روسيا لأبشع أنواع الاضطهاد والقمع الشيوعي، ونتج عن ذلك انخفاض عدد المسيحيين في روسيا رسميًا في ذلك الوقت من ٢٠٠ مليون إلى ٢٠ مليون مسيحي، وهذا معناه أن قسوة الاضطهاد الشيوعي لم تنجح في القضاء على الإيمان والدين؛ وإنما ما حدث بعد انهيار الشيوعية والاتحاد السوفيتي أن عاد أكثر من مئة مليون شخص في روسيا إلى الكنيسة والإيمان.
وحينما أعلن كمال اتاتورك إنهاء الخلافة العثمانية وتحولت تركيا إلى العلمانية، فإن هذا أيضًا لم ينتزع الإيمان من الأتراك، وعاد الحضور الديني القوي إلى الساحة مرة أخرى على يد نجم الدين أربكان.
شاهدت فيديو حقيقي لا ينتمي إلي الخيال الأدبي، ولكنه ينتمي إلى المواجهة الحقيقية مع الأديان؛ صاحب الفيديو يقارن بين الله كما أعلنه الكتاب المقدس في سفر التكوين، وبين لوسيفر (الشيطان) كما يعرفه هو وغالبية البشر من جهة أسلوب المعاملة مع الإنسان، فيقول إن الله الذي تؤمنون به وتعبدونه قد ثار ثورة عارمة على الإنسان وطرده من الجنة وحكم عليه، لمجرد أنه أكل تفاحة واحدة بغير إذنه!، وهذا هو منهج الله مع الإنسان أنه يقتّر عليه ويحرمه من كل ما يريده ويبهجه ويلذّذه!؛ في المقابل: تعالوا وأنظروا ماذا يفعل لوسيفر، إنه يعطيك كل ما تطلبه وكل ما يلذّذك كيفما تشاء، وإنه أعطى للإنسان المعرفة التي ضن به الله عليه وحجبها عنه.
لن أجيب الآن على كم المغالطات التي ساقها صاحب هذا الفيديو، فالقضية ليست أكل تفاحة بغير إذن كما يقول، بل هي تصوير رمزي (كما يقول القديس اثناسيوس) في شرحه لسقوط الإنسان، لكن المشكلة هي مع أولئك الكثيرين الذين ما يزالوا يعتقدون بحرفية القصة وأن الحية نطقت وتكلمت بلسان فصيح وأدارت حوارًا مع الإنسان!
لست أظن أن تحدي هذا المبشر بالشيطان يستطيع أن يغير من إيمان المؤمنين، فعند البعض منهم من أهل العقل والفكر الكثير من الردود عليه، ولكن التخريب الحقيقي الذي يستطيع أن ينال الدين والإيمان هو ما سيأتي من أهل الدين نفسه ومن فقهائه حينما يقدمون لأعداء الدين والإيمان الخنجر الجاهز لكي يطعنوا به الإيمان والدين في صميمه وجوهره؛ بأن يقدموا للعالم خطابًا خرافيًا باسم الدين، وأن يستحضروا من أعماق التاريخ خطابًا ماضويًا متخلفًا عن ركب الحضارة وتطور العقل الإنساني في الحاضر، ويقولون لإنسان هذا العصر أن هذا الخطاب الماضوي المتخلف عن الحضارة هو أقوال الله التي لا يأتيها الباطل، والتي تحكم الماضي والحاضر والمستقبل؛ هذا هو ما يستطيع بالفعل أن يقنع الإنسان المعاصر بمغادرة الدين والتخلي عن الإيمان به!
هذا ليس افتراضًا نظريًا، ولكنه ما حدث بالفعل عندنا هنا في أمريكا، أن الخطاب الشيطاني الذي قدمه صاحب هذا الفيديو، لم ينجح في تشكيك المؤمنين في إيمانهم؛ بينما نجحت الأسئلة التي وُجهت إلى الكنيسة في أمريكا من منتقدي الكتاب المقدس حول العهد القديم في أن تقنع الكثيرين بعدم جدوى الإيمان بإله يأمر بذبح أطفال أريحا (يشوع ٦ : ٢١)، وبسبي النساء والأطفال (تثنية ٢٠ : ١٤)، وبطابور طويل من الوصايا التوراتية التي كانت نافعة لإنسان العصور الغابرة؛ ولم تعد ذات معنى مقبولاً أو مفهوم لإنسان العصر الحاضر؛ مع إصرار رجال الكنيسة على أن هذا التشريع التوراتي صالحاً لكل زمان ومكان، فهو أقوال الله في القديم! ؛ المتناقضة تناقضاً كلياً مع الإنجيل (أقوال الله في الجديد)
محنة الماضوية والإصرار على الموروثات القديمة، واستماتة فقهاء الدين على تطبيق ثقافة وتشريعات عصور غابرة على إنسان العصر بكل ما أنجزه من نضج وحرية العقل الإنساني؛ والبشائع التي نتجت عن توظيف هذه الأشكال من الأفكار الماضوية كأن يقتل الرجل إمراته التي تمنعها كنيستها من الطلاق والنجاة منه، أو أن يتسلح ويتجيش البعض ليهاجموا جيرانهم ومواطنيهم، ليقتلوهم ويسبوا نسائهم لأنهم كفار؛ وهذا هو ما سينجح بالفعل في ترك الأكثرين للدين والإيمان.
لقد كانت الحكومات والدول وأيضًا المؤسسات الدينية، قادرة على أن تحجز على حرية مواطنيها؛ أن تسمع وتطلع أو تقرأ وتقتنع بالأفكار التي لا تريدها الدولة لمواطنيها، أو المؤسسة الدينية لرعيتها. وكانت الدول قادرة على أن تحجب أشكال المعرفة التي لا تريدها لشعبها، كما كانت المؤسسات الدينية قادرة أن ترهب رعيتها بسيف الحرمان والتكفير؛ الأمر الذي انتهى تماماً بفعل حرية العقل من ناحية؛ والسموات المفتوحة والانترنت من الناحية الأخرى.
حاولت في شبابي أن أصدر مجلة دينية تقوية، ولا علاقة لها بالسياسة، وطرقت كل الأبواب الحكومية لاستصدار ترخيص لهذا المطبوع؛ وأُغلقت جميع الأبواب في وجهي، لأن إصدار مطبوعاً دينياً مسيحياً دورياً كان أمراً من المحظورات؛ أصبحت الآن أكتب على الأنترنت، وأبشر على راديو وتلفزيون الراعي الصالح، وأصل بصوتي إلى أنحاء الكرة الأرضية، وأنا جالس في مكتبي، وهذا هو الحال مع غيري من البشر؛ سواء أكانوا يبشرون بدين أو يبشرون بالشيطان.
التحدي الذي لا مفر منه الذي تواجهه الأديان، ويواجهه المتشددون من أصحاب الأديان جميعاً، إن حرية الرأي وسرعة انتشار الكلمة والمعرفة قد وضعتهم بالفعل في مأزق المواجهة بين ماضوية موراثتهم الدينية وبين حرية العقل الإنساني؛ فإما أن يجددوا من لاهوتهم وفقههم وخطابهم الديني، وإما أن يغادرهم الشباب سواء إلى الالحاد والكفر بالأديان نهائياً، أو بالإنتماء إلى طائفة أو ديناً آخر.
فبدلاً من الصراعات الدينية والمذهبية التي يتنادى بها بعضهم، فالمشورة الصالحة هي أن يقدم كلاً من أصحاب الديانات أفضل ما عنده، وأن يسكتوا عن كل موروثاتهم الدينية الماضوية التي عفى عليها الزمن؛ فيطفوا على السطح كل ما هو جميل؛ وإلا فإن البديل جاهزاً! والبينة حاضرة يعلنها الواقع والتاريخ.
لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "التفكير ليس ممنوعًا" اضغط عالرابط التالي