ارتبطت حادثة الموت لدينا بالاحتفالات الجنائزية المصاحبة لها؛ من صُراخ ولطم وعويل في بعض المُجتمعات، إلى وجوم وحزن صامت في مجتمعات أُخرى، وربما لا بكاء ولا عويل ولا حزن ولكن لا مبالاة، ومحاولة التكتم على ابتهاج خفيّ بالميراث وسعادة بتَشْييع المُورث، أو قد تكون جنازة مهيبة بالجموع الغفيرة والموسيقى الجنائزية والخُطب الرنانة لتَشْييع المُتوفى، وأيضًا قد تكون جنازة رسمية أو عسكرية ذات طابع قومي؛ ولكن مع اختلاف وتنوع سلوكيات المشيعين، إلا أنها تتفق كلها في أمر واحد، وهو أنهم يحملون جثمان المتوفي - الذي كان نابضًا في الأمس بالحيوية - داخل صندوق خشبي لكي يُدفن في تراب الأرض، وهذه هي الصورة المتعددة الزوايا المرتبطة شرطيًا في أذهاننا بكلمة الموت.
الممثل الأمريكي المشهور مورجان فريمان ذهب إلى واحد من أكبر السجون الأمريكية ليلتقي بأحد أخطر المجرمين الذي أرتكب جرائم قتل متعددة بدم بارد، وفي الحوار الذي صُوِّر تلفزيونيًا بين مورجان فريمان وذلك المجرم الخطير، سأل مورجان المجرم: هل تشعر بندم على ما اقترفت من جرائم؟ فأجابه الرجل: أنا لا يوجد لدي هذا النوع من الإحساس بالندم او ببشاعة الجرم، فأنا لا يوجد عندي هذا الذي تسمونه الضمير! وكان الرجل يتحدث بطلاقة وبرود أعصاب، توضِح فعلاً ليس فقط بأن ضمير الرجل قد مات؛ بل أن الإنسان نفسه قد مات بداخله.
تعريف الموت بتوقف الوظائف الحيوية للجسد، هو تعريف ساذج، لا يميز بين معنى موت الإنسان وموت الحيوان! فربما يكون إنسانًا مشهورًا أو نجمًا تلفزيونيًا أو رجل سلطة؛ ثم يُفاجأ به الجميع في يوم من الأيام بأنه لم يكن إنسانًا بل كان حيوانًا، مثل الذي لقب نفسه إمبراطورًا لبلده وشهد عنه طباخِه بأنه كان يأكل مُعارضيه حرفيًا، وأنه طهَى له احدهم محشوا بالفريك، وأن ثلاجته كانت عامرة بقلوب ضحاياه من معارضيه التي كان هذا الإمبراطور المتوحش يستمتع بأكلها.
وكثيرًا ما نكتشف أن مشاهيرًا كما الملايين من البشر الذين يسيرون في شوارع المدن ويعملون في دواوينها ومصانعها، أنهم موتى فاقدين للحس، أو موتى فاقدين للوجود، ويعيشون حياة العدم واللا معنى والفراغ، أو لم يذوقوا يومًا طعم ما تعارف عليه البشر باسم الحب، ومن ثم فلم يحبوا أيضًا أحدًا!
فالموت ليس هو فقط أن يوضع جثمان الإنسان في تابوت خشبي ويذهبون به إلى المقابر، ولكن هناك الملايين من البشر هم موتى بلا مقابر، ضاع منهم سر الحياة ومعناها وهرب الفرح من حياتهم، ولم يرجع أبدًا؛ يعملون و يُنْتِجُون، يأكلون ويَشربون، يُزوجون ويَتزوجون ولكنهم فعليًا موتى؛ ربما ولدوا و تَنَشَّأوا هكذا لم يذوقوا طعم الحياة، ولم يعرفوا يومًا ما هو الفرح أو كانوا أحياءً وفقدوا سر الحياة، وأصبحوا تماثيلاً متحركة تبدوا عليها صفات الأحياء وهم يتحركون ويعملون ويعيشون، ولكنهم أمواتًا في نفوسهم وفي أرواحهم وفي أفكارهم وقلوبهم، وبالمجمل فهم أمواتًا في إنسانهم الداخلي العميق.
كلامًا صادقًا وأمينًا وصريحًا: إذا كنت لا تعيش المحبة والفرح فهذا معناه أن الإنسان العميق فيك قد مات، فأعراض موت الجَسد من تَوَقُّف وظائفه الحيوية تختلف عن أعراض موت الإنسان العميق، التي هي غياب الحب والفرح مع هدوء وسلام النفس.
ربما تكون متدينًا تؤدي كل فروض الصلاة والعبادة ولا تكف عن القراءة في كتاب الله، أو تكون واحدًا من هؤلاء المواظبين بلا انقطاع على الذهاب إلى الكنيسة بل ربما تكون خادمًا فيها، ومع ذلك فلن يقيك التدين ولا الخدمة ولا العبادة من أن تكون ميتًا في إنسانك العميق؛ إذا كان الحب والفرح وسلام القلب قد فارقوا حياتك.
إذا كنت قد استنفذت كل أدواتك المُتاحة ووسائلك للحصول على الحب والفرح ولم تعثر بعد عليها، فمن الممكن أن أشاركك بخبراتي؛ أما إذا كنت تحيا بالفرح ويملأ الحب كيانك فأنت غير معنيًّ بحديثي هذا، فأنا أوجه حديثي إلى مَن يبحثون عن معنى الحياة والوجود، ولم يجدوا الحياة بعد وكذلك لم يحققوا وجودهم.
فقد قرأت يومًا في الانجيل أنه يقول عن المسيح أنه فيه كانت الحياة النازلة من فوق من عند الآب السماوي، وأن هذه الحياة هي النور الذي ينير كل إنسان "فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ، وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ، وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ." (يو ١: ٤ - ٥)، "كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِيًا إِلَى الْعَالَمِ." (يو ١: ٨).
ثم سمعت المسيح نفسه يقول في الإنجيل: "أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ." (يو ٨: ١٢)، فطلبت هذه الحياة منه أن يهبها لي فوهبني هذه الحياة، التي عندما فاضت في قلبي وروحي ملأت كياني الإنساني بالفرح والحب وتحقيق الوجود فتذوقت معنى الحياة وعرفت ما هي الحياة التي تستطيع أن تُنير الإنسان العميق في كياني، وها هي تنموا وتتزايد كل يوم ويَزيد معها تَمتُعي بالفرح والحياة الحقيقية.
إذا كنت مفتقرًا إلى الحياة والحب والفرح وتحقيق الوجود؛ تستطيع أن تجرب خبرتي، إذا شئت
"أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ." (يو ٨: ١٢)
لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "التفكير ليس ممنوعًا" اضغط عالرابط التالي