[هذه السلسلة من المقالات عن إعادة قراءة العهد القديم بعيون وفكر العهد الجديد؛ ليست تكرارًا ولا حوارًا حول سلسلة المقالات التي سبقتها؛ التي برهنت أن ناموس العهد الجديد (روح الحياة القدوس)؛ قد حل محل ناموس العهد القديم (الخطية وعقوبة الموت) "لأنه إن تغَيَّر الكهنوت فبالضرورة يصير تغيُّر للناموس أيضًا" (عب ١٢/٧)؛ ولكنها محاولة تطبيقية جادة لقراءة العهد القديم بفكر العهد الجديد]
لقراءة المقالات السابقة من هذه السلسلة اضغط عالرابط التالي
https://anbamaximus.org/articles/
هل الفرق بين العهد القديم والعهد الجديد: هو أن القديم تنبأ عن آلام المسيح وموته وقيامته؛ وأن الجديد أخبر عن موته وآلامه وقيامته؛ هل حقًا هذا هو الفرق بين العهدين؟!
مثل هذا المنطق من التفكير يَخْتَزِل العهد القديم كله في الكلمة النبوية متجاهلاً التوراة بما تحمله من أحداث، ومما تحمله من تشريع يتناقض تناقضًا جذريًا مع إنجيل المسيح، ويتجاهل أيضًا الأسفار التاريخية بكل ما تحمله من أخطاء وخطايا الملوك والأنبياء كبشر وهذا الكَم الهائل من الحروب وسفك الدماء، ويتجاهل أيضًا الإعلان الصادم الذي حَسم به الإنجيل الفرق بين العهدين: البشرية في العهد القديم (قبل المسيح) كانوا جالسين في الظلمة وظلال الموت "لِيُضِيءَ عَلَى الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ وَظِلاَلِ الْمَوْتِ، لِكَيْ يَهْدِيَ أَقْدَامَنَا فِي طَرِيقِ السَّلاَمِ»." (لو 1: 79).
أما افتتاحية العهد الجديد هي أن النور الحقيقي الذي كان عند الآب قد أتى إلى العالم "كَانَ النُّورُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ آتِيًا إِلَى الْعَالَمِ." (يو 1: 9)، "فَإِنَّ الْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ، وَقَدْ رَأَيْنَا وَنَشْهَدُ وَنُخْبِرُكُمْ بِالْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ عِنْدَ الآبِ وَأُظْهِرَتْ لَنَا." (1 يو 1: 2).
ونستطيع أن نُوجِز الفرق بين إعلان التوراة عن الله وإعلان الإنجيل عن الآب السماوي في هذه المقارنة: تقول التوراة "فَقَالَ الرَّبُّ: «أَمْحُو عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ الإِنْسَانَ الَّذِي خَلَقْتُهُ، الإِنْسَانَ مَعَ بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَطُيُورِ السَّمَاءِ، لأَنِّي حَزِنْتُ أَنِّي عَمِلْتُهُمْ»." (تك 6: 7).
ولكن المسيح قال "لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُهْلِكَ أَنْفُسَ النَّاسِ، بَلْ لِيُخَلِّصَ". (لو 9: 56).
وبعيدًا عن محاولات التمويه وخداع البسطاء التي تحاول أن تَختصر العهد القديم في الكلمة النَّبْوِيَّة، وتَخْتَزِل العهد الجديد في تحقيق النبوءات، فإن الفروق الجوهرية تَكْمُن في أن "الرُّوحِ الَّذِي كَانَ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ مُزْمِعِينَ أَنْ يَقْبَلُوهُ، (لأَنَّ الرُّوحَ الْقُدُسَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ بَعْدُ، لأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ مُجِّدَ بَعْدُ)." (يو 7: 39)، وأن الحياة لم تكن قد أُظهرت بعد وأن البشرية كانت جالسة في الظلمة، بينما كان النور الحقيقي مُحتجبًا عنها، عند الله "حَقًّا أَنْتَ إِلهٌ مُحْتَجِبٌ يَا إِلهَ إِسْرَائِيلَ الْمُخَلِّصَ." (إش 45: 15). وأن هذا الاحتجاب للنور وللحياة هو معنى غضب الله: "الَّذِي يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ بِالابْنِ لَنْ يَرَى حَيَاةً بَلْ يَمْكُثُ عَلَيْهِ (يبقى فيه) غَضَبُ اللهِ»." (يو 3: 36).
ومن خلال هذا الواقع الْمُؤْلِم لتَرَدّي الإنسان إلى هوة السقوط وانحدار إنسانيته وأخلاقياته إلى الْحَضِيض وإلى القتل والدمار، وبناءً على الواقع التي كانت تُرزَح تحته البشرية، فإن الجميع كانوا تحت الموت مُقيدين ومَحكومين به بسبب الخطية والسقوط؛ وبالتالي فإن الشيطان كان هو المُتسيِّد على البشرية فلم يكن أمام الفرعون العبراني - موسى النبي - الذي يقود جحفلٌ من الأَجْلاف الذين عاشوا واعتادوا على العبودية والتسخير في أرض مصر؛ لم يكن لديه حل لضبط مثل هذا الشعب (لغياب قوة الحياة والنعمة المُغيرة)؛ إلا أن يضع لهم شريعة تحكمهم بالحديد والنار؛ والدليل الأول: أنه بعدما أخرجهم بذراع الرب الرفيعة من تحت عبودية فرعون وصَنع أمامهم كل هذه الآيات، فما أن صعد إلى الجبل ليَتَلَقَّى الوحي والإلهام من الرب، حتى يعود ويجدهم قد صَنَعوا عِجْلاً من الذهب يَسْجُدُون له ويقولون "هذِهِ آلِهَتُكَ يَا إِسْرَائِيلُ الَّتِي أَصْعَدَتْكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ»." (خر 32: 8). فما كان منه إلا أن أعمل سيوف اللاويين في رقابهم "ثُمَّ أَخَذَ الْعِجْلَ الَّذِي صَنَعُوا وَأَحْرَقَهُ بِالنَّارِ، وَطَحَنَهُ حَتَّى صَارَ نَاعِمًا، وَذَرَّاهُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، وَسَقَى بَنِي إِسْرَائِيلَ." (خر 32: 20).
هذه الحادثة في بداية خروجهم من أرض الْعُبُودِيَّة الحرفية في مصر، وطريقة تعامل موسى النبي مع الموقف ستشرح لنا، وستجيب على كل الأسئلة التي سَنُوَاجِههَا في تشريعات موسى النبي لذلك الشعب في تلك الحقبة الصعبة وسنفهم طبيعة المواجهات العنيفة الكثيرة التي حدثت لهم في البرية؛ وكان من الطبيعي أن يُعَزِّز موسى سلطانة وتَدْبِيره وتَشْرِيعَاته لهذا الشعب بأنها أقوال الله.
فهل حقًا كان موسى قادرًا على أن يَسمع صوت الله أو أن يراه أو هل كانت تَشْرِيعَاته فعلاً وأحكامه هي أوامر من الله؟
المسيح يجيب على هذا بأن: "قَالَ لَهُمْ: «إِنَّ مُوسَى مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تُطَلِّقُوا نِسَاءَكُمْ. وَلكِنْ مِنَ الْبَدْءِ لَمْ يَكُنْ هكَذَا." (مت 19: 8)، "وَالآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ، وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ،" (يو 5: 37). أي أن الْحُروب والتَّشْرِيعَات كلها كانت من عند موسى النبي: الذي كان فِعليًا مُكلّفًا ومُفوضًا من الله، أن يقود هذا الشعب ويضع له تشريعًا. "بِتَرْتِيبِ مَلاَئِكَةٍ وَلَمْ تَحْفَظُوهُ»." (أع 7: 53)
وحتى نفهم سلطان التَّشْرِيع الذي يُمنح من الله للإنسان نستطيع أن نُرَاجِع (1 كو 7: 12) "وَأَمَّا الْبَاقُونَ، فَأَقُولُ لَهُمْ أَنَا، لاَ الرَّبُّ: إِنْ كَانَ أَخٌ لَهُ امْرَأَةٌ غَيْرُ مُؤْمِنَةٍ، وَهِيَ تَرْتَضِي أَنْ تَسْكُنَ مَعَهُ، فَلاَ يَتْرُكْهَا."، إذًا فبولس بصفته رسولاً فهو مُخَوَّل ومُفَوَّض أن يضع تَشْرِيعَات لكنيسته وهذه التَّشْرِيعَات سيُخضع لها، فإذًا الإنسان الذي يأخذ تكليفًا وتفويضًا عنده السلطان أن يُشرِع للشعب باسم الرب؛ وكان هذا هو الحال مع موسى، بفارق أن بولس كان بعد المسيح وقد امتلأ من الروح القدس ومن الحياة الجديدة، وأما موسى فكان قَبْلَ المسيح ولم يَقْبَل الروح القدس بعد "لأَنَّ الرُّوحَ الْقُدُسَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أُعْطِيَ بَعْدُ، لأَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَكُنْ قَدْ مُجِّدَ بَعْدُ." (يو 7: 39).
هذه الاستنارة في الفهم بين موسى وبولس ستعفينا من إِشْكَالِيَّة الوقوع في التناقض بين ما يقول موسى عنه أنه أقوال الله له، وما يقول بولس الرسول عنه أنه أقوال الله له؛ بين شريعة الخطية والموت في القديم وشريعة روح الحياة في المسيح يسوع في العهد الجديد "لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ الْحَيَاةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ وَالْمَوْتِ." (رو 8: 2).
هذا المقال هو خاتمة الحديث عن المقارنة بين القديم والجديد بعد أن أَشْرَق النور الكامل علينا واستطعنا أن نفهم به أن: "اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ." (يو 1: 18).
وسنبدأ من الغد بنعمة المسيح سلسلة جديدة عن "إنجيل المسيح"