من أسوأ ما حدث في تاريخ اللاهوت المسيحي في العصور الوسطى هو شرح "العدل والرحمة" الذي وضعه "أنسالم" رئيس أساقفة كانتربري الكاثوليكي في القرن الثاني عشر عن الفداء؛ إذ تجاهل فيه الإنجيل وإعلان العهد الجديد تمامًا؛ حتى أنه لم يبرهن على كلامه بنص واحد من الإنجيل! بل ذهب إلى فكرة الجريمة والعقاب المستوحاة من الذهن الناموسي؛ ومن ثم فقد جعل الآب (الذي أحب البشرية) يو١٦/٣ غاضبًا قاسيًا انتقاميًا وجعل الابن منفصلاً ومختلفًا: رحيمًا ومحبًا!
ومن ثم فقد أسقط التباين بين صورتي الاعلان الإلهي بين العهدين على الله نفسه! بدلاً من أن يضعها في إطارها الإنجيلي: أن الله لم يره أحد قط (ولا موسى ولا أنبياء العهد القديم) بينما في الجديد: فقد رأى الله من هو من الله؛ الابن الوحيد الذي خبرنا عن الآب؛ عن رؤية وعن حق؛ وأن هذا هو سبب التباين في رؤيتي البشرية لله؛ بين القديم والجديد.
هذه النظرية التي تفتقر إلى فهم الإنجيل ومحبة الله؛ تأسست على ذهنية الناموس والعهد القديم؛ وقد سرت في عصور الضعف الشديد الذي استوجب ثورة الإصلاح؛ من كنيسة العصور الوسطى الكاثوليكية إلى حركة الإصلاح نفسها حتى اعتبرها البعض: عقيدة حركة الإصلاح؛ دون أن ينتبه أحد إلى أن لوثر نفسه لم يُعلّم بهذا؛ بل ذهب إلى أن الفداء تممه لاهوت المسيح وليس ناسوته! مثل ما علم أثناسيوس: أن لاهوت المسيح هو الذي سحق الشيطان وطرحه وأبطل الخطية والموت وجدد الطبيعة البشرية بالقيامة من الأموات؛ وليس مقاصة "أنسالم" المهينة لقداسة الله ومحبته: أن ذبيحة جسد يسوع المسيح كانت ترضية لغضب الآب وفدية لعدله!
المشكلة الحقيقة هي في ذهنية الموروث الناموسي اليهودي (الذين ما زال البرقع موضوعا على قلوبهم) التي تسللت بالتواتر إلى الجماعة المسيحية التي خرجت أصلاً من حضن اليهودية؛ حتى نجح التغلغل اليهودي في خلق جماعات الصهيونية المسيحية داخل المسيحية نفسها؛ ليقدموا أنفسهم على أنهم دارسي الكتاب المقدس وفاهميه! فشوهوا إعلان العهد الجديد عن محبة الله الفائقة برؤية الموروث اليهودي الإنتقامية؛ والتي مازالوا بها: ينتقمون من البشرية حتى اليوم بأدوات القتل الفيروسية والبيولوجية؛ فبدلاً من أن يُقرأ العهد القديم بعيون الجديد بناءً على تنامي استعلان النور الكامل بالابن المتجسد؛ فقد أوهموا غير الفاهمين لحق الإنجيل: بفهم إعلان العهد الجديد بناءً على معطيات الناموس والقديم!
لقد كانت مشكلة البعض؛ ليس أننا لم نقدم البراهين من كتابات الآباء على فساد تعليم العصور الوسطى؛ ولكن مشكلتهم كما غيرهم حاليًا: أنهم ظلوا مخدوعين بتعاليم غير إنجيلية لقرون، وأن التصحيح لم يأت بهم؛ بل بغيرهم!
ومن ثم فقد فرضوا على أبناء العهد الجديد بموروثهم الناموسي: "أن أجرة الخطية هي موت" (رو٢٣/٦) بمعنى أن عقوبة الخطية الموت؛ وأن الله يعاقب الإنسان على الخطيئة بالموت! وسأكتفي بأن أهدي إليهم هذا النص من العهد الجديد لتتأملوا كيف نجحت الصهيونية بهؤلاء أن تشوه نعمة العهد الجديد: "لاَ يَقُلْ أَحَدٌ إِذَا جُرِّبَ: «إِنِّي أُجَرَّبُ مِنْ قِبَلِ اللهِ»، لأَنَّ اللهَ غَيْرُ مُجَرَّبٍ بِالشُّرُورِ، وَهُوَ لاَ يُجَرِّبُ أَحَدًا. وَلكِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُجَرَّبُ إِذَا انْجَذَبَ وَانْخَدَعَ مِنْ شَهْوَتِهِ. ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ " تُنْتِجُ مَوْتًا." (يع١٤،١٣/١)؛ فالعهد الجديد يقول صراحةً أن الخطية تنتج أو تثمر موتًا؛ وليس أن الله يعاقب على الخطية بالموت كما نقل إلينا الذهن الناموسي من خلال الصهيومسيحية!