بحسٍّ إنسانيٍّ ووطنيٍّ في الوقت نفسه، سعدتُ باستقبال مصر لأبنائها من الشباب والرجال الذين تَغرّبوا عنها متورِّطين في الإساءة إلى الوطن، ورأيتُ في تسامح الرئيس ـ رغم إساءتهم الشخصيّة له ـ مثالًا رفيعًا في الأخلاق يُضاف إلى رصيده. وتَعجّبتُ أيضًا من انتقاد البعض لهذا التسامح مع أشخاصٍ هم أبناء هذا الوطن وشركاؤه، حتى وإن كانوا قد أخطأوا في حقّه.
بينما أثار شكوكي التلبيسُ المكشوف للعين البصيرة بين الدِّين الإسلاميّ الحنيف وبين الحركات السياسيّة التي تتسمّى بالدِّين وتتستَّرُ برِدائه، وتسعى للتسرّب من جديد من خلال أجهزة الدولة نفسها. فلو كان هؤلاء يُمثِّلون الإسلام، أو كان الباباوات في العصور الوسطى يُمثِّلون المسيحيّة، لكان هذا أكبر دليلٍ ضدّ الدِّين كلّه! ولماذا لا يخجل هؤلاء وأولئك من ثمرة ارتدائهم شكلَ الدِّين لتحقيق مآربهم باسمه؟ إنّ الناس بسببهم يَهجرون الدِّين: 30% من الشباب يَهجرون الكنائس في الغرب، و20 مليونًا في مصر ـ حسب إحصائيّة 2024 ـ قد هجروا الدِّين. فلو كان في منهج هؤلاء المُسيِّسين للدِّين خيرٌ، لما ترك الدِّينَ كلُّ هؤلاء.
خروج 20 مليونًا (ويتزايدون) من الدِّين في مصر بسبب التشدّد الديني وعوامل أخرى، يُنذرُ بتغيّر التركيبة السكّانية في مصر، خصوصًا أنّهم في أغلبيتهم من الفئة المثقّفة. وهي إشارةٌ واضحة لا تُخطئها العين البصيرة أنَّ منهجَ التشدد والتمييز والاستعلاء الديني لم يُؤُول إلى تقوية الدِّين وتثبيت المؤمنين، بل على العكس. وإنّ محاولة إخماد العقل بأساليب القمع والكتاتيب لن تُؤُول إلّا إلى مزيدٍ من المفارقين!
لم يحدُث يومًا أنني قلتُ أو كتبتُ كلامًا طائفيًّا، فأنا لا أُمثّل أحدًا وأعيشُ في الخارج، ولكنني ما زلتُ مهمومًا بمصلحة الوطن الذي نَبَتُّ من أرضه: إنّ السيّد نتنياهو صرَّح صراحةً، بغير مواربة، أنّه يقوم بمهمّة روحيّة مقدّسة هي تحقيق وعد إسرائيل الكبرى، الذي يُوجِب أن يَنهب أراضيَ من فلسطين والأردن ومصر. وقد أكّدتُ مرارًا طوال الفترة الفائتة أنّ إسرائيل تخشى المواجهة العسكريّة مع مصر، ومن ثَمَّ ستَلجأ إلى الانقسام والدسائس.
إنّ استمرار نهج خلط الدِّين بالسياسة، وتغلغُل صُنّاع الاستعلاء الديني والتمييز في أجهزة الدولة المسؤولة، والتعامل مع المسيحيين الأقباط بنظرة الذِّمِّيّةِ والتسيُّد؛ لن ينجح في مقصده، بقدر ما سينجح في أن يُتيح الفرصة للتدخّل من الخارج والانقسام من الداخل. خصوصًا أنّ التركيبة السكّانية تتغيّر بطريقةٍ مُنتظمة ضدَّ هؤلاء المتشنّجين. وحينما تقع الواقعة (لا قدَّر الله) فسيذهب هؤلاء إلى البحث عن قطعةٍ من الكعكة، دون أن يهمَّهم أمر الوطن الذي يرونه: "حفنةَ ترابٍ عَفِن".
الذين لا يُراقبون تغيّر التحالفات العالميّة وسَيْر الأحداث لم يَفطنوا بعدُ لفِخاخ القوى العالميّة، كما حدث في العراق قبل غزوه الكويت، من خِداع سفيرة أمريكا للرئيس العراقي السابق.
برأيي: إنَّ الترفّع عن الأهداف الطائفية الضيّقة، والتعايش السويّ مع شركاء الوطن، وإعمال العقل لفهم الدِّين وشرح الإيمان: هو الطريق المؤدّي إلى النجاح والاستقرار.
حَفِظَ اللهُ مصرَ بخيرٍ سالمين.
بنسلفانيا – أميركا
١٨ أغسطس ٢٠٢٥
لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "رأيٌ في الأحداث" اضغط على الرابط التالي: