كنتُ قد دعوتُ إلى ندوةٍ ثقافيةٍ ضمن فعاليات مؤسسة المصريين قبل حوالي خمسة عشر عامًا، وقد عقدناها في إحدى قاعات فندق ميريديان النيل، وكنتُ قد تشرفتُ بدعوة فضيلة الدكتور الشيخ وكيل الأزهر آنذاك، الذي كان جالسًا إلى جواري في الندوة. وكان موضوع الندوة يدور حول تجديدِ الخطابِ الديني، وقلتُ بحصرِ اللفظ إننا نمتلكُ تجربةً واقعيةً في تجديد الخطاب الديني، حيث إنّ التشددَ والعودةَ إلى الماضويات أدّيا إلى خروج الكثيرِ من الشباب من دائرةِ الإيمان إلى الإلحاد. فلمّا أخذ فضيلتُه الكلمة، ردَّ عليَّ قائلًا بحصر اللفظ: "هذا حدثَ عندكم في المسيحية، وأما عندنا في الإسلام فهو من المستحيل حدوثه...".
غادرَ الكنائسَ الأمريكية 30% من شبابها بسبب التمسك بالماضويات، وحسب الإحصائيات المعلومة حدث نفس الشيء في مصر، حيث خرج ما لا يقل عن عشرين مليون شخصٍ، لنفس الأسباب. المتدينون يعيشون على أمجاد الماضي، ومن الطبيعي أن يثقوا في إيمانهم ونوعية تدينهم؛ لكنهم يتجاهلون المتغيرات القوية التي حدثت في الإنسان المعاصر، من جراء ثورات الحريات الإنسانية والفكرية، وسرعة انتشار وتبادل المعرفة بين الشعوب عبر السماوات المفتوحة بالساتلايت والإنترنت، والتليفون المحمول في كل جيبٍ وحقيبة.
التجربة الرائدة التي حدثت في الكنيسة الروسية، أن اللاهوتيين الروس أعادوا صياغة المفاهيم اللاهوتية بطريقةٍ تناسب الإنسان المعاصر والعقل الحر؛ فبدلًا من التشدد في التمسك بالماضويات، الذي كان كفيلًا بالقضاء على المسيحية في روسيا جراء الضغط الإلحادي الرهيب للشيوعية، فقد أنقذَ تجديد الفكر اللاهوتي Neo-Patristic Theology الكنيسة الروسية من الإلحاد، وعادَ دفعةً واحدة ثمانون مليون شخص إلى الإيمان الأرثوذكسي، حتى أصبح تعداد المسيحيين في روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي 103 ملايين شخص بدلًا من 20 مليونًا في ظل الاتحاد السوفيتي، عكس ما حدث في الكنيسة الأمريكية اللذين يعظون كل أحد من ماضويات العهد القديم.
يظن كثيرٌ من المتدينين أن زيادة الجرعة الدينية والعودة إلى نظام الكتاتيب والتلقين والحفظ سيحمي إيمان الشباب، غير مدركين أن أساليب القمع الفكري والتلقين مع أسلوب روايات الماضويات هي واحدة من أهم أسباب مغادرة الشباب للدين وللإيمان، بغير تمييزٍ بين نوعية الديانة، أكانوا مسلمين أم مسيحيين، لأن القضية هي في نوعية العقل والعصر والإنسان وطريقة حكمه على الأشياء وفهمه للدين وللحياة.
حينما قال لي فضيلة الدكتور عاشور: "إن هذا يحدث عندكم في المسيحية ولا يحدث عندنا في الإسلام"، سكتُّ تأدبًا، فقد كنتُ أنا المُضيف؛ ولكنني إذا سكتُّ اليوم على ما يحدث للإنسان المصري، كما هو حادثٌ في باقي الأماكن، فإن سكوتي اليوم لن يكون أدبًا بل جُبنًا وخيانةً للإنسان والوطن.
أنا لا أعرف ما الذي يجري وراء الكواليس، ولكني أراقب الأحداث عن بُعد: كان الرئيس يدعو لتجديد الخطاب الديني، وكانت مصر تسير في طريق نهضتها، وكان سعر الدولار ستة عشر جنيهًا مصريًا للدولار الواحد، وأبلينا اقتصاديًا بلاءً حسنًا في أزمة الكورونا (2019/ منتصف 2020). ثم حدثت المتغيرات: توقف تجديد الخطاب الديني، وعُدنا إلى المنهج الماضوي والكتاتيب، وإلغاء الفلسفة والثقافة؛ ولا أريد أن أصف واقع الحال من وقتها إلى اليوم لئلا يُحسب عليَّ إثمًا! ولكني أتساءل: لماذا تزامن الانهيار الاقتصادي مع التراجع الثقافي والفكري، والعودة إلى ماضويات دينية لم تفد الدين بل أضرمت نار الإلحاد؟!
وهذا مجرد رأيٌ في الأحداث.
بنسلفانيا – أمريكا
٣٠ أكتوبر ٢٠٢٥
لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "رأيٌ في الأحداث" اضغط على الرابط التالي:
https://anbamaximus.org/articles/Ra2yFeElahdath