حينما نقرأ سفر أعمال الرسل، لا نجد أنهم كانوا يبشِّرون بموت المسيح الفدائيِّ على الصليب كما يحدث في هذه الأيام، بل كانوا يكرزون بيسوع المسيح القائم من الأموات: "مُتَضَجِّرِينَ مِنْ تَعْلِيمِهِمَا الشَّعْبَ، وَنِدَائِهِمَا فِي يَسُوعَ بِالْقِيَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ." (أع 4: 2)، "فَلْيَكُنْ مَعْلُومًا عِنْدَ جَمِيعِكُمْ وَجَمِيعِ شَعْبِ إِسْرَائِيلَ، أَنَّهُ بِاسْمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ النَّاصِرِيِّ، الَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمُ، الَّذِي أَقَامَهُ اللهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، بِذَاكَ وَقَفَ هذَا أَمَامَكُمْ صَحِيحًا." (أع 4: 10)؛ فالبشارة بالصليب لا تعلن القيامة، بينما القيامة تعلن الصليب أيضًا بالضرورة؛ لأن القيامة هي قيامة من الأموات، أي أنها أعقبت الصليب. فإذا كان المسيح قد مات ولم يقم، فأيُّ خلاصٍ وقيامةٍ وحياةٍ تكون للبشرية؟!
أنسالم، رئيس أساقفة كانتربري في القرن الثاني عشر (توفي في بداية القرن الثالث عشر)، والذي كانت كنيسته تتبع الكنيسة الكاثوليكية في ذلك الوقت، وضع نظرية عُرفت باسم "إشباع العدل الإلهي – Satisfaction Theory"، ولم يستند فيها إلى نص واحد من الإنجيل. فلا يوجد نصٌ واحدٌ في الإنجيل يُشير إلى أن موت المسيح كان وفاءً لدين العدل الإلهي على النحو الذي ذهب إليه أنسالم. أما جون كالفين، فقد أسس على نظرية أنسالم "إشباع العدل الإلهي" نظريتَه في شرح الفداء: "البديل العقابي – Penal Substitution Theory"، حيث اعتبر أن جسد المسيح صار هو الفدية التي قُدِّمت للعدل الإلهي من أجل غفران الخطايا.
مارتن لوثر، الذي قام بثورته ليعيد الكنيسة الكاثوليكية إلى الحياة الأرثوذكسية، كان أيضًا قارئًا جيدًا للقديس أثناسيوس، واتبع منهجه في شرح الفداء: "إذن كان من الضروري أن يتخذ الكلمة جسدًا ويستخدم أداةٌ بشريةً لكي يُحي الجسد أيضًا." (تجسّد الكلمة. الفصل 45، الجزء 1.)؛ ومن ثم فإن الصليب كان هو المواجهة بين مَن هو الحياة والذي له سلطان الموت، أي إبليس.
وبما أن تاريخ الثقافة والحضارة الإنسانية تأثَّر تأثُّرًا مباشرًا بالسياسة، فإن التعليم اللاهوتي أيضًا تأثَّر بغياب تعليم الآباء الأولين لقرون طويلة، وانتشر التعليمُ الذي نبع من مراكز السلطة والهيمنة السياسية في ذلك الوقت، وأعني الكنيسة الكاثوليكية والإمبراطورية البريطانية؛ حتى أن بعض القادة الأرثوذكس الذين تأخروا عن اللحاق بتجديد الفكر اللاهوتي بتعليم الآباء، صاروا يرددون تعاليم أنسالم وكالفين عن الفداء بموت المسيح، وليس بقيامته!
أما تصوير الآب السماوي، على خلاف الإعلان الإنجيلي، بالإله الغاضب الذي لا يريد أن يغفر إلا إذا قُدِّمت له ذبيحةٌ تردُّ غضبه، أو تحتمل عقابهُ بديلًا لمعاقبة الإنسان، فهو مأساةٌ لاهوتيةٌ وأخلاقيةٌ بكل المقاييس. وقد نال هذا التصوُّر نقدًا لاذعًا من فلاسفة عصر التنوير ومن غير المسيحيين، كما أعاد الفكر الإنساني إلى الصورة التي رسمتها التوراة لإله الغضب الانتقامي الذي أهلك البشرية بالطوفان وسدوم وعمورة بحمم النيران. وكانت هذه الصورة أحد عوامل أرتداد الكثير من الشباب عن الإيمان المسيحي في العقدين الأخيرين.
القديس أثناسيوس الرسولي، في كتابه "تجسد الكلمة"، وقد تبعه مارتن لوثر، يذهبان إلى أن الخلاص تمَّ ثمرةً لانتصار الحياة على الموت، والمسيح على الشيطان. حيث يقول: "لأن سلطان الموت قد استُنفِذ في جسد الرب، فلا يعود للموت سلطانٌ على أجساد البشر (المماثلة لجسد الرب). ثانيًا: وأيضًا فإن البشر الذين رجعوا إلى الفساد بالمعصية، يُعيدهم إلى عدم الفساد ويُحييهم من الموت بالجسد الذي جعله جسده الخاص، وبنعمة القيامة يُبيد الموت منهم كما تُبيد النار القشّ." (تجسّد الكلمة. الفصل 8، الجزء 4.)؛ ، "فَإِذْ ذَاكَ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَتَأَلَّمَ مِرَارًا كَثِيرَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلكِنَّهُ الآنَ قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً عِنْدَ انْقِضَاءِ الدُّهُورِ لِيُبْطِلَ الْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ." (عب 9: 26)، "إِذْ جَرَّدَ الرِّيَاسَاتِ وَالسَّلاَطِينَ أَشْهَرَهُمْ جِهَارًا، ظَافِرًا بِهِمْ فِيهِ." (كو 2: 15).
أما القديس غريغوريوس النيزيانزي، فعنده ردٌّ واضحٌ وصريحٌ على نظريتي أنسالم وجون كالفين، إذ قال:
"لمن قُدِّمت تلك الدماء التي سُفِكَت لأجلنا، ولماذا سُفِكَت؟
أعني الدم الثمين والمشهور لإلهنا وكاهننا الأعلى وذبيحتنا. فلقد كنا محتجزين في العبودية بواسطة الشرير، مُباعين تحت الخطية، وننال اللذة مقابل الشر.
والآن، بما أن الفدية تخص فقط من يمسكنا في العبودية، أسأل: لمن عُرِضت هذه، ولأي سبب؟
إذا كان للشرير، فليخجل من هذا الانتهاك!
إذا كان اللص هو الذي يتلقى الفدية، ليس فقط من الله، بل فدية تتألف من الله نفسه، ويُقَدَّم له مثل هذا الثمن العظيم عن طغيانه، لكي يتركنا من أسرنا!
أما إذا كانت للآب، أسأل أولاً: كيف؟ لأنه لم يكن هو الذي كان يضطهدنا؛
وثانيًا: على أي أساس يُسعد دم ابنه الوحيد الآب، الذي لم يقبل حتى إسحاق حين كان يُقدَّم له من قبل أبيه، بل غيَّر الذبيحة، فوضَع كبشًا بدل الضحية البشرية؟ أليس واضحًا أن الآب يقبل الابن، لكنه لم يطلبه ولم يطالب به!" (Gregory of Nazianzus. (Oration XLV). The Second Oration on Easter. XXII.67).
بنسلفانيا – أمريكا
۲٦ أكتوبر ۲۰۲٥
لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "لاهوت العهد الجديد" اضغط على الرابط التالي: