رأيٌ في الأحداث (٥٥) | الدِّين والإنسان المُعاصِر
Sep 11, 2025 9
980 79

رأيٌ في الأحداث (٥٥) | الدِّين والإنسان المُعاصِر

واجهتِ المسيحيّةُ نقدًا مَريرًا من فلاسفة عصر التنوير، انصبَّ في أغلبه على العهد القديم وسلوكيات قادة الكنيسة المسيحيّة، ثم جاء الدَّور على توجيه النقد للإسلام أيضًا من الفلاسفة. على أنَّ هذا النقد المُبرِّح للدِّين من الفلاسفة لم يَفُتّ في عَضُد الدِّين، لأنَّ المواجهة كانت بين الفلاسفة من ناحية، والدِّين من ناحيةٍ أُخرى، فاختار الناس ناحية الدِّين للدفاع عنه والانحياز له ضدَّ الفلسفة.

بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية تأكَّد الإنسان أنَّ أمور العالم لا تُديرها وعود الدِّين، بل تديرها القوّة والسياسة والشيطان. وهذا مهَّد للموجة الأُولى من الإلحاد، أو على الأقل لإهمال الحياة الدينيّة والانصراف عنها.

ثم كان عصر السَّماوات المفتوحة والإنترنت، الذي ساهمَ في انتشار المعرفة وتبادُل الثقافات، مواكبًا لانتشار الحُرِّيّة وامتلاك الإنسان الفرد لحرِّيتهِ وقدرته على إعمال عقلِه الحرّ في الحكم على الأُمور وإعادة تقييمها، بما في ذلك موروثات الدِّين ذاتها.

مواجهة عصر النهضة حدثت بين الفلاسفة والدِّين، فانحاز الناس إلى الأديان وتحزَّبوا، كلٌّ لدينه، في مواجهة الفلسفة. أمّا المواجهة المُعاصِرة مع الدِّين فهي بين الإنسان نفسه – عقلِه وحُرِّيته – وبين الدِّين وثوابته وموروثاته. ولهذا دخلت الأديان في مِحنةٍ ومواجهةٍ غير مسبوقة، لأنَّ المواجهة صارت بين الإنسان الفرد حُرًّا وبين الدِّين، مُستجوِبًا الدِّين: ماذا يُفيد الدِّين والإيمان في واقع حياته العمليّة في هذه الدُّنيا؟ أو على حدِّ تعبير بائع السيّارات في كاليفورنيا الذي قال لي: "الله لا يفعلُ شيئًا للبشر."

لقد صارت وعود الدِّين ورجاله كلّها على المحكّ، وفي مواجهةٍ مع حرِّيّة الإنسان ومع إعمال عقله. وبالأسف الشديد، فإنَّ أغلبيّة رجال الدِّين لا يملكونَ إلّا نفس أساليبهم التُّراثيّة وعِظاتهم التقليديّة التي ملَّ الناس سماعها، ولم تعُد مُقنِعةً لعقل الإنسان المُعاصِر. بينما يرى البعض أنَّ مُضاعفة الجرعة الدينيّة ستكون دعمًا للدفاع عن الدِّين: "داوني بالتي كانت هي الداءُ!"

ينبغي أن يتنبَّه رجال الدِّين إلى أنَّ مواجهة اليوم مُختلفة عن مواجهة الأمس؛ إنَّها مع العقل والحرِّيّة والإنسان نفسه. وما لم يقتنع رجال الدِّين بالتخلّي عن الأدوات القديمة، التي كانت هي نفسها أسباب تراجُع الناس عن الدِّين، والبحث عن حلولٍ تُجيب على احتياجات الإنسان وتتَّسق مع إعمال العقل ومع عصر نُضج الإنسان وامتلاكه لحُرِّيته، فلربّما كانت النتيجة أن يترسَّب الدِّين إلى قاع المجتمع بين بُسطاء القوم، تاركًا العقول في حيرتها.

 

بنسلفانيا – أميركا

٧ أغسطس ٢٠٢٥

 

لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "رأيٌ في الأحداث" اضغط على الرابط التالي:
https://anbamaximus.org/articles/Ra2yFeElahdath

Powered By GSTV