اللهُ لم يرهُ أحدٌ قط، لا في القديم ولا في الجديد، لكنّنا نقرأ في العهد القديم عن خروج الفرعون ذي الأصول العبرانية — موسى — بثورة تحريرٍ للشعب العبراني من استعباد المصريين لهم، متجهًا بهم نحو أرض القبائل الكنعانية وغيرهم. أعلن موسى أن الله (يهوه)، إله إبراهيم، قد ظهر له وتكلّم إليه، وأمره بأن يُخرج العبرانيين من مصر ليؤسِّس بهم مملكة عظيمة في الأرض الواقعة بين نهر العريش (وادي عربة) ونهر الفرات.
وفي العهد الجديد، خرج من بين العبرانيين أنفسهم شابٌّ وقور اسمه يسوع، صار يُبشِّر بين اليهود بمبادئ جديدة لم تألفها البشرية، مثل محبّة الأعداء والمُسيئين. وكان يجول يصنع خيرًا، ويشفي المرضى، ويُحرِّر المتسلّط عليهم من إبليس. وفي هذه المرة، لم يقل كما قال موسى إنّ الله كلّمه، بل قال إنّه ابن الله، أي أن نور الله الأزلي قد حلَّ فيه. وقد برّر وبرهن ما نسبه لنفسه من علاقة فريدة بالله، بأنّه يعمل أعمال الله نفسه؛ إذ أقام الموتى، وفتح أعين العميان، وشفى المُقعدين.
فهل كانت معجزات المسيح الخارقة هي وحدها التي ميّزته عن موسى النبي؟
ربّما في أزمنةٍ سابقة، كانت القوة — سواء أكانت ماديةً تُخضع الإنسان، أو روحيّةً تقتحم الطبيعة وتُجري المعجزات — تُعدّ علامةً وبرهانًا على الرسالة والسلطان. لكنّ الإنسان المعاصر نفض عن كتفيه كلّ تاريخ القوة القامعة أو الخارقة، وصار يسأل بإلحاح: أرِني بأعمالك إيمانك!
ماذا يُقدّم إلهك للإنسان؟ وكيف يُجيب على احتياجاته؟
لقد أشبع المسيح جمعًا يزيد على خمسة آلاف بخمس خبزات وسمكتين. نعم، ولكن موسى أشبع جمعًا يُقارب المليون والنصف، مدة أربعين سنة، بالمنّ (رقاق بالعسل) في البرية.
فهل أجاب كلاهما على احتياج بطون البشر؟
أم أن احتياج الإنسان لم يكن للخبز والمنّ والسمك واللبن، بقدر ما كان للرحمة، والنجاة، والحياة الحقيقية؟
هنا تكمن المفارقة الجذرية بين العهدين القديم والجديد، وبين موسى والمسيح، وبين تدين الشريعة وبشارة الإنجيل.
أُحضِرت إلى المسيح في الهيكل امرأة ضُبطت متلبّسة بالخيانة الزوجية، وقالوا له: "موسى أوصانا أن مثل هذه تُرجم، فما حكمك أنت؟"
لقد أعلنت الشريعة، على لسان موسى، إلهًا قويًا في فعله، شديدًا في غضبه، ساحقًا في عقابه، يكره الشر والعصيان، ويعاقب الخاطئين في الدنيا بالرجم، وفي الآخرة بنارٍ متقدة لا ينطفئ لهيبها، ولا ينقطع دخانها.
لكن ما يجعلني أُصدّق أن يسوع هو مسيح الله، هو أنّه قدّم إعلانًا جديدًا ومُغايرًا عن إلهٍ يُحبّ الإنسان: "لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ." (مر 2: 17).
فبماذا يُفيد اللهَ سحقُ عظام الإنسان الخاطئ، وشواءُ لحمه؟!
هل يُشفي هذا الانتقامُ غليلَ إلهٍ غاضب؟!
أم أنّها تصوّرات انتقامية لقادة حكموا بالشريعة، وساسوا الناس بالحديد والنار والخوف؟
المسيح لم يعاقب بالقتل، مقتولًا مسحوقًا من الشر، لكنه قال مقولته المشهورة: " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ بِلاَ خَطِيَّةٍ فَلْيَرْمِهَا أَوَّلًا بِحَجَرٍ! " (يو 8: 7). فإن كنتم جميعًا خطاة كفّوا عن رجم بعضكم بعضًا!
فلو طُبِّقت الشريعة بحذافيرها، لتحوّلت القرية إلى كومة من الحجارة تُغطّي جثث الرجال والنساء، الشيوخ والصغار!
المسيح أشبع الجياع خبزًا، وشفى المرضى، وفتح أعين العميان، وأقام الموتى، وحرّر المجدلية من سبعة شياطين، وبدّل حياة اللصوص والخاطئات، فجعل منهم قديسين ومبشّرين بدلًا من أن يُقتَلوا بالرجم والموت.
الشريعة جاءت بالقانون والعقوبة والموت، أمّا الإنجيل، فقد قدّم للإنسان حياةً جديدة يُشفى بها من محبّة الخطيئة، ومن سلطان الشيطان؛ حياة يغدو فيها الإنسان مُشفقًا على الآخرين، مُحبًّا للخير، وغافرًا حتى لأعدائه.
فهل عكس المسيح صورة الله كما قال عنه الإنجيل؟
بنسلفانيا – أمريكا
٣١ أغسطس ٢٠٢٥
لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "لاهوت العهد الجديد" اضغط على الرابط التالي:
https://anbamaximus.org/articles/NewTestamentTheology