رأيٌ في الأحداث (٥٢) | العنصرية، الاستعلاء، الدين:
Aug 24, 2025 3
980 79

رأيٌ في الأحداث (٥٢) | العنصرية، الاستعلاء، الدين:

لمّا كنتُ أقرأُ الكتابَ المقدَّس بعهديه في سنِّ الخامسةَ عشرة، كنتُ أَنزعِجُ من كثرةِ قصصِ الحروبِ وسَفكِ الدِّماءِ في أسفارِ العهدِ القديم، على أنّني كنتُ أُهَلِّلُ لمَوقعةٍ: كذَبَح إيليَّا النبيُّ أنبياءَ البعلِ والسَّواري البالغ عددُهم 850 رجلًا حسب روايةِ سفرِ الملوكِ الأوَّل؛ لأنَّني كنتُ غَضًّا صغيرًا! ولذا كنتُ أذهبُ لقراءةِ الأسفارِ التاريخيّة وأتحاشى قراءةَ أسفارِ الشَّريعة حتّى كَبُرتُ.

فلمّا كَبُرتُ كنتُ قد انخرطتُ في الدِّراسةِ اللاهوتيّة، ومن ثَمَّ كان عليَّ أن أدرسَ التَّوراة وشريعة موسى النبيّ كجزءٍ من دراستي، وكذلك دراسة الفلسفة؛ وهكذا وجدتُ رأسي مَحشورةً بين حَجَرَي رَحى: شريعةٌ منسوبةٌ إلى الإله تأمرُ شعبَ الله المختار بأن يُغيروا على قُرى الآخرين، ويَعرِضوا عليهم الصُّلح، فإذا قَبِلوا الصُّلحَ صار هؤلاء الآخرين عبيدًا عند شعبِ الله المختار، وإذا لم يَقبَلوا الصُّلحَ يقتلون رجالَهم، ويَسْبون نساءَهم وأطفالَهم، ويستولون على أرضِهم ومواشيهم. (تث 20: 10-14)

أمّا حَجرُ الرَّحى الآخرُ الَّذي كان يضغطُ على رأسي من الجهة المقابلة، فهو اتّهامُ الفلاسفة لإلهِ الكتابِ المقدَّس بناءً على المثال الَّذي ذكرتُه الآن: بأنَّه إلهٌ عنصريٌّ يأمرُ عباده بإذلالِ واستعبادِ الآخرين، ويستحلُّ نساءَ الآخرين وأطفالَهم عبيدًا لشعبه المختار؛ فبينما تؤكِّد التَّوراة أنَّ الله خَلَق الإنسان على صورته، فإنَّ الفيلسوف الألماني لودفيغ فيورباخ (Ludwig Feuerbach) في كتابه "جوهر المسيحيّة" يصفُ صورةَ الله بالعنصريّةَ وبأنها من صنع الإنسان: "خَلَقَ اللهُ الإنسانَ على صورته، وخَلَقَ الإنسانُ اللهَ على صورته."

هذه الصُّورةُ التي وصفها الفلاسفةُ لإلهِ الكتابِ المقدَّس بالعنصريّة، وبأنّها من صُنع الإنسان: ما كان يمكن التَّصريحُ بكلامٍ بهذا الوصف قبل أن يقولَ مارتن لوثر للبابا: "لا"، ولا قبل أن تدخلَ البشريّة في عصر التَّنوير واحترامِ الحُريّة وحقوق الإنسان.

لهذا صدَّقتُ وتأكدتُ أنَّ المسيح له طبيعتان متحدتان في شخصٍ واحد: طبيعةٌ بشريّةٌ مخلوقةٌ من الأرض ومأخوذةٌ من العذراء مريم، وأمّا الطَّبيعة الأخرى فهي كلمةُ الله الأزليُّ الذي نزل من السَّماء وحلَّ في هذا الجسد، وأنّه فعلًا كما قال: نزل من السَّماء ورأى ويعرفُ الآب السَّماوي حقَّ المعرفة (يو 3: 13)، لأنّه برَّأ الله من صفة العنصريّة وأعلنَ محبة الله للإنسان كالآب السماوي، إذ قال: "هكذا أحب الله العالم" (يو 3: 16) (وليس فقط المؤمنين) و"أحبوا أعدائكم" (مت 5: 44) (وليس استعبدوهم أو أذلوهم) "لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ، بَلِ الْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ." (لو 5: 31-32).

فهل نجح الماضويون أن يقنعوا الإنسان بعنصرية الإيمان والاستعلاء على الأخرين! أم تسببوا في كراهية الدين وهجر الإيمان؟! عندنا خيرُ شاهدٍ في عصرنا: فإن قسوةُ السيّد نتنياهو ضدَّ أطفالِ الفلسطينيين هي التي حركت الرأيَ العام العالميَّ لصالح الدَّولة الفلسطينيّة.

 

بنسلفانيا – أمريكا
٢١ أغسطس ٢٠٢٥

 

لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "رأيٌ في الأحداث" اضغط على الرابط التالي:
https://anbamaximus.org/articles/Ra2yFeElahdath

Powered By GSTV