وحيُ العهدِ القديمِ هو الكلمةُ النبوية: "وَعِنْدَنَا الْكَلِمَةُ النَّبَوِيَّةُ، وَهِيَ أَثْبَتُ، ... لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ." (2 بط 1: 19، 21). فمن غير المنطقي اعتبار تاريخِ اليهودِ وحروبِهم وحيًا من عند الله، ولا يوجد نصٌّ في العهدِ الجديدِ يقول إن كل ما كُتب في العهدِ القديمِ هو وحيٌ كما يظن البعض! فوحيُ العهدِ القديمِ هو الكلمة النبوية التي اقتبسها المسيح له المجد والرسل القديسون.
أما وحيُ العهدِ الجديدِ الذي نزل من السماء، فهو نورُ الآبِ وكلمتُهُ الذي أُلقِيَ إلى العذراءِ مريم، فاتخذ منها جسدًا يُشبهنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها؛ فجسدُ المسيح مأخوذٌ من العذراء، ومخلوقٌ من جسدِها، ومشابهٌ لأجسادِنا، لكن بسبب حلول نور الآب وكلمته فيه، أخذ الجسدُ المخلوقُ صفة الكلمة الذي حلَّ فيه؛ أي "ابن الله".
فلا وحيَ في المسيحية قد نزل من السماء إلا نورُ الآب وكلمتُهُ نفسه، الذي تجسّد من العذراء مريم؛ أي أن المسيح نفسه هو وحيُ الأناجيلِ النازل من السماء: "لأَنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ، لَيْسَ لأَعْمَلَ مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي." (يو 6: 38). أما تلاميذُ المسيح، كتبةُ الأناجيل، فقد كانوا شهودًا مُنقادين بالروحِ القدس، موثِّقين لما رأوه بأعينهم وسمعوه بآذانهم ولمسوه بأيديهم عن الوحيِ النازلِ من السماء؛ أي المسيح نفسه.
وهذه نقطةُ اختلافٍ قويةٍ بين الموروثِ الإسلامي واللاهوتِ المسيحي؛ ففيما يرى الموروث الإسلامي أن الأناجيل (مثل إنجيل متى مثلاً) قد أوحيَ بها إلى المسيح؛ فإن الإيمان المسيحي كما ذكرنا يرى أن المسيح كلمةُ الآب السماوي هو نفسه الوحيُ الذي نزل من السماء، وأن الشهادةَ التي أكّد عليها المسيح والتي تبرهن أنه ابن الله هي أنه انفرد بأن عمل أعظمَ أعمال الله في معجزاته: "إِنْ كُنْتُ لَسْتُ أَعْمَلُ أَعْمَالَ أَبِي فَلاَ تُؤْمِنُوا بِي." (يو 10: 37)، ولم يكتفِ المسيح بشهادةِ أعماله، بل بعد ارتفاعه إلى السماء ظلّت أعمالُهُ تُجرى على أيدي تلاميذه والمؤمنين به على مدى الأيام: "اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضًا، وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا، لأَنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي." (يو 14: 12).
فهكذا ظلّت أعمال المسيح التي لم يعملها أحدٌ غيره (يو ١٥: ٢٤)، والتي هي أعمال الآب السماوي (يو ١٠: ٣٧)، هي التي تشهد له وتبرهن على أنه ابن الله، ونور الآب الذي ظهر في الجسد. وما الأناجيل المكتوبة إلا شهادة توثيقيّة مؤتمنة بأيدي تلاميذه، تخبر عنه، وتعاليمه، وأعماله، وسلطانه، وشفاءه للمرضى، التي ما زالت تُجري الأشفية والآيات والمعجزات باسمه أمس واليوم وغدًا.
فلم تكن الأناجيل قد دُوِّنت وقتما خرج تلاميذُ المسيح إلى العالم ليبشّروا به؛ فقد كان برهانهم على حقيقةِ شخص المسيح وأعماله أنهم قدموا للناس باسم المسيح الأشفية والمعجزات كما كان المسيح يعمل، ولم يكن برهانهم كتبًا، بل الوحي الحقيقي الذي نزل من السماء: المسيح نفسه، الذي كان حيًّا وفاعلًا معهم وفيهم ليتمم مشيئة الآب السماوي الذي أرسله لينير به كلَّ إنسانٍ في العالم.
بنسلفانيا – أمريكا
٢٧ يوليو ٢٠٢٥
لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "لاهوت العهد الجديد" اضغط على الرابط التالي: