كنتُ دون العشرين بقليلٍ حين كان خالي – الذي كان تلميذًا للقمص مينا المتوحد – يأخذني معه إلى المقر البابوي القديم في كلوت بك، ونصعد إلى الدور الثاني حيث نجد البابا كيرلس السادس جالسًا على كرسيه العالي في صدر صالون استقبال الشعب، وننتظم معًا في الطابور الطويل الممتد من باب الصالون حتى كرسي البابا؛ الذي كان يُصلّي لجميع الآتين إليه، ويستمع إلى شكواهم، ويوزّع عليهم مواهب الروح القدس والصلاة الشفاعية والشفاء.
الحقيقة التي لم أفهمها في تلك السن: ما كنت أشعر به من سحابة المجد غير المرئية التي كانت تغطي الكنيسة في مصر، ولكنني كنت أعلم أن البابا كيرلس السادس كان رجل صلاة، وأنه كان يُقيم قداسًا يوميًّا في الصباح الباكر. ولما جاء عليَّ الوقت الذي اختبرتُ فيه معنى القوة الروحية بالوقوف أمام المذبح أثناء صلاة القداس، فهمتُ فيما بعد سر سحابة القوة والمجد التي كانت تغمر الكنيسة بقُداسات البابا كيرلس السادس. وليس معنى كلامي أن الجميع كانوا قديسين، ولكن كان الذين يطلبون الرب يجدون البركة والنعمة.
تنيّح البابا كيرلس السادس وتعقّدت الأمور بين الكنيسة والرئيس السادات، وحلّت بمصر والمنطقة العربية – منذ سنة 1979م – سحابة العنف السوداء والكراهية، وحدثت أعمال قتل كثيرة؛ إذ وَجَدَ الأشرار فرصتهم في زعزعة الاستقرار وإثارة الفتنة بالهجمات المتكررة على كنائس المسيحيين، كما في حادث تفجير كنيسة القديسين بالإسكندرية.
إلا أن الحادثة الأكثر دموية وبشاعة حدثت مع عمال مصريين مسيحيين في ليبيا، حين ذبح الدواعش الإرهابيون 21 شابًا مسيحيًا من قرية غير معروفة في محافظة المنيا اسمها قرية (العور)، وكان هؤلاء الشباب مجرد عمال يسعون وراء لقمة العيش بالعمل في ليبيا.
المهمُّ هنا في قصةِ شهداءِ ليبيا، أنهم لم تُفجَّر فيهم قنبلةٌ وهم يُصلّون ولا يدرون ما يحدث – كما حدث في تفجير الكنائس – ولكنهم خُيِّروا بين أمرين: إمّا إنكارُ المسيحِ كابنِ اللهِ الحيّ والنجاةُ من الموت؛ أو الإصرارُ على إيمانهم ويُساقوا إلى الذبحِ بكاملِ إرادتهم ووعيهم. وهكذا أعادت مجموعةٌ من الشبابِ العمالِ البسطاءِ صورةَ الاستشهادِ إلى الأذهان، وأكّدت أن الروحَ القدس الذي استخدم البابا كيرلس السادس بالصلاةِ ومواهبِ الروحِ القدس، يستطيعُ أيضًا أن يستخدمَ الشبابَ البسيطَ بالشهادةِ للإنجيلِ بسفكِ الدمِ والتضحيةِ بالحياة، ورأى العالمُ كله قوةَ ومتانةَ إيمانِ أبناءِ الكنيسةِ التي لُقِّبت في التاريخِ بأمِّ الشهداء، وأن الروحَ القدس أثمرَ في البسطاءِ ما لم يتمكّن من فعله بالحكماءِ والعظماء.
لم يُزعجني أن يستقبل الرئيسُ الأمريكي السيد محمد الجولاني (رئيس سوريا الحالي)، الذي كان واحدًا من الإرهابيين الذين اشتركوا في ذبحِ شهداءِ المسيحِ المصريين في ليبيا، والذي نُشرت له صورةٌ وهو يسوق سيدةً مربوطةً بحبلٍ في رقبتها إلى سوقِ النخاسةِ وبيعِ السبايا؛ لأنني متأكّد – من دراسة الكتاب المقدس والتاريخ – أن "كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ!" (مت 26: 52)، وأن "الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا." (غل 6: 7).
وكلما تصفّحتُ موقعَنا الإلكتروني على الإنترنت، وقرأتُ تعليقاتِ أشخاصٍ يحملون أسماءً مسيحية، ويضمرون روحَ الكراهيةِ والبغضةِ، ويعبّرون عن رأيِهم بتعليقاتٍ قبيحةٍ وسفيهةٍ؛ أُحوّل إحساسي بالألمِ والحسرةِ على ما آلت إليه أحوالُ الناسِ المدعوين مسيحيين في كنيسةِ مصر، إلى النظرِ إلى الفخرِ والرّجاءِ اللذين يشعّان على الكنيسةِ كلّها من شبابِ مصر شهداءِ الإرهابِ، والجولاني في ليبيا؛ لأعزّي نفسي: يوجد رجاء.
بنسلفانيا – أمريكا
١٦ مايو ٢٠٢٥
لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "رأيٌ في الأحداث" اضغط على الرابط التالي:
https://anbamaximus.org/articles/Ra2yFeElahdath