الآب و الإبن - العدل و الرحمة:
موضوع اليوم يتناول جوهر الإنجيل والمسيحية، للأسف الشديد، لقد نشأنا جميعًا على نظرية أنسلم بصور مختلفة، والتي تقوم على مفهوم العدل والرحمة، بحيث يُنظر إلى الآب باعتباره العدل، وإلى الابن باعتباره الرحمة. ووفقًا لهذه النظرية، كان العدل يطالب بالقصاص، أي الانتقام من الإنسان بالعقوبة، بينما الرحمة تُعبر عن الفداء، و لهذا تجسد الإبن و صلب و مات لكى يفى الدين و يكفر عن خطية الإنسان أمام متطلبات العدل الإلهى!! و قد سبق و شرحنا أن هذه النظرية، من بدايتها إلى نهايتها، لا تمت بصلة إلى اللاهوت المسيحي، حيث إن أنسلم نفسه لم يستخدم نصوصًا إنجيلية لدعم نظريته، لأنه كان يسعى إلى تقديم منهج عقلي للاستدلال اللاهوتي، وذلك في سياق ظروف العصور الوسطى.
بذل أبنه أم وهب أبنه؟
ما أود أن أوضحه أنه لابد لنا أن نتخلص من تأثيرات هذه النظريات التي لا علاقة لها بإنجيل المسيح أو بلاهوت العهد الجديد، كي نسير معا خطوة بخطوة نحو فهم الحقيقة: الإنجيل لم يذكر أي شيء مما قاله أنسلم، بل قال: "هكذا أحبّ اللهُ العالَمَ حتى وهَبَ اَبنَهُ الأوحَدَ، فَلا يَهلِكَ كُلّ مَنْ يُؤمِنُ بِه، بل تكونُ لَهُ الحياةُ الأبدِيّةُ." (يوحنا 3: 16، الترجمة المشتركة): الفرق بين "وهب" و "بذل" في النص اليوناني يكمن في أن الله لم يحتفظ بابنه لنفسه ولم يعزه علينا، بل وهبه لنا، فنحن لدينا إشارات على الطريق توضح المعنى الصحيح، كما نجد ذلك في الترجمة اليسوعية، فقد جاءت وصححت بعض الأمور، ومنها أنها اعتمدت تعبير "حتى إنه وهب ابنه الوحيد" بدلًا من "حتى بذل" وهذا الفرق في التعبير ينقلنا من فكرة الناموس والإله العقابي إلى جوهر الحقيقة، وهي أن الله وهب أبنه وأرسله.
ماهى الكفارة؟
في رسالة رومية، يقول الرسول بولس: "الّذي قَدَّمَهُ اللهُ كفّارَةً بالإيمانِ بدَمِهِ، لإظهارِ برِّهِ، مِنْ أجلِ الصَّفحِ عن الخطايا السّالِفَةِ بإمهالِ اللهِ." (رومية 3: 25): الآب هو الذي وهب الابن ليكون كفارة. ولكن، ما معنى كفارة؟ إذا فتحنا القاموس، سنجد أنها تعني التعويض. فالكفارة والفدية كانت في الأصل تعويضًا ماديًا يُدفع لأهل الشخص المتوفى، إذ كان المتسبب في فقدان الحياة يدفع التعويض، أي الكفارة أو الفدية.
لكن الفدية لا تُدفع لمن قتل أو للمفتري؛ هذا ما أوضحه القديس غريغوريوس النزينزي، حيث قال: "نحن لم نكن أسرى للآب حتى تُدفع الفدية للآب، ولا يمكن أن تُدفع الفدية للشيطان، للشرير، للمفتري، للبلطجي." فمن غير الممكن أن يدفع الله نفسه فدية للشرير! إذن، لمن دُفعت الفدية؟ لقد دُفعت للشخص الذي فقد حياته، أي للإنسان. فالآب هو الذي قدم الكفارة، وليس هو من أخذها. والكفارة تعني أنه أعطى ابنه لكي نحيا به، كما ورد في رسالة يوحنا الأولى: "وَهذِهِ هِيَ الشَّهَادَةُ: أَنَّ اللهَ أَعْطَانَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَهذِهِ الْحَيَاةُ هِيَ فِي ابْنِهِ." (1 يوحنا 5: 11).
ما معنى أن الآب أرسل أبنه؟
يجب أيضا أن نفهم الفرق بين الإرسال فى مفهوم العهد الجديد وبين الصورة الساذجة لفكرة الإرسال، التي تصور الأمر وكأنه مجرد تكليف أو أمر بالذهاب. لا، بل أرسله إلى العالم، كما ذكرنا في المحاضرة الأولى: أرسله إلى كل إنسان:، وسوف نشرح ذلك بالتفصيل.
لاحظ هنا كيف يختلف هذا الفكر تمامًا عن المفاهيم الفلسفية الأخرى: فالآب وهب ابنه ليكون كفارة للإنسان، أي أنه أعطانا حياته في ابنه. وهكذا نفهم معنى "أرسل"، فالابن لم يُرسل إلى العالم وكأنه مجرد مُرسَل أو رسول، بل أُرسل إلى الإنسان نفسه.
يسوع المسيح هو بكر كل خليقة:
نعود هنا إلى ما سبق أن تناولناه في المحاضرات الماضية، حيث فهمنا أن يسوع المسيح هو بداءة خليقة الله، وبكر كل خليقة، وأن دمه معروف سابقًا قبل تأسيس العالم: "مَعْرُوفًا سَابِقًا قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلكِنْ قَدْ أُظْهِرَ فِي الأَزْمِنَةِ الأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ،" (1 بطرس 1: 20): كما أن الله اختارنا فيه قبل تأسيس العالم: "كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ،" (أفسس 1: 4).
وهنا نصل إلى المفهوم الأعمق، وهو أن الله لا يتعامل مع الزمن كما نفهمه نحن، فالله لديه حاضر دائم. لذلك، يسوع المسيح لم يكن مجرد "الابن" قبل التجسد، بل هو موجود قبل تأسيس العالم، وهو الذي به خُلِق العالمين. "فَإِنَّهُ فِيهِ خُلِقَ الْكُلُّ: مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، سَوَاءٌ كَانَ عُرُوشًا أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِيَاسَاتٍ أَمْ سَلاَطِينَ. الْكُلُّ بِهِ وَلَهُ قَدْ خُلِقَ." (كولوسي 1: 16)."كلَّمَنا في هذِهِ الأيّامِ الأخيرَةِ في ابنِهِ، الّذي جَعَلهُ وارِثًا لكُلِّ شَيءٍ، الّذي بهِ أيضًا عَمِلَ العالَمينَ،" (عبرانيين 1: 2).
إذن، تأسيس الخليقة كان مبنيًا على أن الابن قد تجسد. فهل كان هناك وقت لم يكن فيه الابن متجسدًا؟ بالطبع، لأن الابن أزلي كما أن الآب أزلي. لكن متى حدث التجسد في قصد الآب؟ لقد كان ذلك قبل تأسيس العالم. وهنا نصل إلى سؤال أعمق: وقبل تأسيس العالم كم من الزمن كان ذلك؟ الحقيقة أننا لا نعرف، فالعلماء يتحدثون عن ملايين السنين، أما الرواية البسيطة لسفر التكوين فتقدم لنا منظورًا أكثر مباشرة.
فإذن يسوع المسيح، هذا الذي قرأت عنه في الأناجيل، والذي كان يسير في شوارع الجليل والناصرة، والذي أمسكوه وصلبوه ثم قام، كان موجودًا في قصد الله قبل تأسيس العالم. يسوع المسيح، ابن الله الحي، هو الذي قال عنه الإنجيل:
كيف نفهم أن الله وهبنا ابنه فى ضوء التعليم الأرثوذكسى؟:
أ) وهب ابنه الأوحد - أسلم نفسه لأجلى:
فى انجيل يوحنا نقرأ "هكذا أحبّ اللهُ العالَمَ حتى وهَبَ اَبنَهُ الأوحَدَ، فَلا يَهلِكَ كُلّ مَنْ يُؤمِنُ بِه، بل تكونُ لَهُ الحياةُ الأبدِيّةُ." (يوحنا 3: 16، الترجمة المشتركة). و يقول الرسول بولس "ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي": "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي." (غلاطية 2: 20).
هناك فرق بين "أحبني وأسلم نفسه لأجلي" وبين "وهب ابنه للإنسان". فما هو هذا الفرق؟ فعبارة الرسول بولس وكأنه يُشخصن العلاقة، أي أنه يراها كعلاقة فردية بينه وبين المسيح، وهذا المعنى كنت أظنه صحيحا عندما كنت صغيرا و لكن عندما كبرت وتعمقت في المعرفة، أدركت أن هذا ليس مجرد شخصنة، بل هذه هي الحقيقة عينها!
ب) الكلمة كان عند الله:
في الإصحاح الأول من إنجيل يوحنا، تعلمنا: "فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهَ." (يو 1: 1). وقد تعلمنا أن حرف الجر "عند" في الأصل اليوناني هو "πρός" (بروس)، والذي يحمل معنى الاتجاه نحو الله وليس مجرد الوجود بجواره: فلكى تكون العروس عند عريسها، هي لا تصل إليه بمجرد أن تُجبر على ذلك، بل عبر اختيارها الحر في الحب والارتباط به. وبهذا نفهم أن يسوع المسيح، ابن الله، لم يكن فقط عند الآب، بل كان متجهًا نحوه بكل حبٍ فائق، ذلك الحب الذي نفهمه و ننمو فيه أكثر بنعمة المسيح .وبالتالي، لم يكن ممكنًا أن يُعطي يسوع المسيح نفسه للإنسان من تلقاء ذاته. لماذا؟ لأن المسيح كان مُعطى بالكامل للآب! ومن ثم، لكي يعطي المسيح نفسه للإنسان، كان لا بد أن الآب نفسه هو من يقدمه للإنسان. فقد تنازل الآب عن هذا الامتياز العظيم - أن يكون الابن في حضنه - لكي يهب للإنسان ابنه الوحيد. ولو لم يكن الآب هو من قدمه، لما كان ممكنًا أن يسوع المسيح يُسلم نفسه لأجل الإنسان. هذا ما تعبر عنه الكلمة اليونانية في النص الأصلي: الآب لم يحتفظ بابنه لنفسه، بل وهبه لنا. وعندما قدمه الآب، أصبح ممكنًا للمسيح أن يسلم نفسه للإنسان.
ج) اختارنى قبل تأسيس العالم:
نعود إلى عبارة الرسول بولس: "ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي." "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي." (غل 2: 20): نحن نتحدث عن شخص يسوع المسيح، ابن الله الحي، الذي كان موجودًا قبل تأسيس العالم. نحن لا نتحدث هنا انه وهبنا ابنه عن مجرد عدد كبير من الناس، بل عن محبة شخصية عميقة متجهة إلى كل شخص بعينه. فهل مات المسيح لأجلنا وكأنه مجرد قرار شامل للجميع؟ لا! هو نفسه قال: "لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا. هذِهِ الْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي»." (يوحنا 10: 18): وهكذا، فإنني كنت مختارًا فيه قبل تأسيس العالم. ولكن على أي أساس؟ وكيف تم هذا الاختيار؟ بولس نفسه الذي قال "ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي"، كان مختارًا قبل تأسيس العالم.
لقد شرحنا سابقًا معنى ظهور المسيح لنا: "ظهرت لنا نحن الجالسين في الظلمة وظل الموت."باختصار، ابن الله قبل تأسيس العالم كان يعمل العالم لأجلي. لم يكن مجرد خلق شامل، بل كان يجهز المكان والزمان ليعيش فيه كل فرد بطريقة شخصية. وهذا ليس تشبيهًا أو مبالغة، بل حقيقة روحية عميقة. إذًا، كان يعرفني شخصيًا، وكان يحبني شخصيًا. معرفة كاملة تشمل كل تفاصيل حياتي، أخطائي، طاعتي، كل شيء. كان يرى كل لحظات ضعفي، ومع ذلك أحبني حبًا غير مشروط.
د) أحبنى رغم ضعفى بغير شروط:
هذا الحب ليس كالمحبة الاستهلاكية أو السببية التي نعرفها، مثل حب الإنسان لشيء ممتع أو جميل، بل هو محبة ووهب الذات بالكامل. فالآب أحب الابن وأعطى ذاته له، وعندما أحب الابن الإنسان، وهبه ذاته أيضًا. ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي. "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي." (غل 2: 20): وهكذا، أعطاني المسيح نفسه حبًا، ليس فقط الآن، بل منذ اللحظة التي رأى فيها ضعفي، منذ اللحظة التي كنت أعيش فيها في الموت. كان يحتضنني في محبته، لا ليبقى ضعفي فيّ، بل ليحمله عني: "أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له."
وهكذا، كل ما فيّ من ضعف، دنس، أنانية، بغضة، وشر، انتقل إليه، وهو حمله عني. وبسبب اتحاده بي، أبطل الخطيئة بذبيحة نفسه: "فَإِذْ ذَاكَ كَانَ يَجِبُ أَنْ يَتَأَلَّمَ مِرَارًا كَثِيرَةً مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلكِنَّهُ الآنَ قَدْ أُظْهِرَ مَرَّةً عِنْدَ انْقِضَاءِ الدُّهُورِ لِيُبْطِلَ الْخَطِيَّةَ بِذَبِيحَةِ نَفْسِهِ." (عب 9: 26): وهنا نرى أن الذبيحة لم تكن مجرد حدث تاريخي، بل كانت ضرورية لتنفيذ الخلاص عمليًا أمام الناس، في الزمان، لأن دم المسيح كان معروفًا سابقًا قبل تأسيس العالم: "مَعْرُوفًا سَابِقًا قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، وَلكِنْ قَدْ أُظْهِرَ فِي الأَزْمِنَةِ الأَخِيرَةِ مِنْ أَجْلِكُمْ،" (1 بط 1: 20). ولكن كون دمه معروفًا سابقًا لا يلغي أهمية تحقيق الذبيحة في الزمان، لأننا كبشر تحت الزمن، كان علينا أن نراه ونشهد الحدث ونختبر الخلاص عمليًا. وأخيرًا، الذي دفعه إلى قبول هذا الألم كله كان السرور الموضوع أمامه، الفرح بأنني سأكون معه، متحدًا به في محبته.
نظرًا للمجتمع الذي نعيش فيه، نجد أنفسنا دائمًا في حوار مع مواطنينا المسلمين حول مفهوم "ابن الله"، وكيف يمكن أن يكون لله ابن. لهذا، غالبًا ما نركز على عنصر ألوهيته كابن الله، بينما نغفل تمامًا هذا الإنسان الشاب الجميل الوديع، الذي تُقدَّم له عروس متقيحة، متعفنة، شريرة، بذيئة، دنسة! تأمل هذا المشهد جيدًا، لكي تدرك معنى عبارة "ابن الله أحبني وأسلم نفسه لأجلي". بسبب محبته، وهبني ذاته، فكل ما فيَّ من فساد انتقل إليه، وحمل خطيتي. وعندما احتمل خطيتي في ذاته، أُبطلت الخطيئة، وبعد ذلك، وهبني ذاته، فأخذت منه المحبة، والقداسة، والطهارة. فهو إنسان شريف الجنس، لأنه ابن الله، فأعطاني ما له بعد أن حمل ما لي.
وهكذا، لم يكن ممكنًا أن يعطيني نفسه إلا بعد أن الآب قدمه: الآب قدمه كفارة، كتعويض عن فقداني للحياة ودخولي إلى الموت. قدم نفسه لكل واحد بطريقة شخصية، وليس بشكل عام فقط.
ه) هل أحب أيضا الأشرار؟:
لكن ماذا عن الأشرار؟ هل قدم نفسه لهم؟ نعم! كيف نتأكد؟ من كلامه ذاته: "وَهذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً." (يو 3: 19). قد يقول البعض: "لكن هذا حدث لاحقًا!" لا، لأن الله ليس لديه "لاحقًا"، ولا "أمس"، ولا "غدًا". فالابن جاء نورًا، وقدم نفسه، لكن الناس رفضوه.
لذلك، هناك نقطة مهمة جدًا: "لهذا بُشِّر الموتى." (1 بط 4: 6): هذه الآية من صميم اللاهوت الأرثوذكسي، حيث نؤمن بأن المسيح نزل إلى الجحيم، إلى أقسام الأرض السفلى، إلى عالم الأموات، وبشّر الموتى. ولكن، ماذا تعني عبارة "بشّر الموتى"؟ تعني أن إرسالية الآب بابنه لم تتوقف، بل امتدت إلى الجميع، حتى الذين ماتوا.
إرسالية الإبن أبدية:
وهنا يبرز سؤال: هل انتهت إرسالية الآب بابنه؟ هل أرسل الابن إليّ، وأنا قبلته، وانتهى الأمر؟ لا! بل إرسالية ابن الله، الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي، هي إرسالية أبدية اتحاد أبدي مستمر. فعطاء الآب لابنه ليس لحظة تاريخية، بل هو ممتد منذ تأسيس العالم وإلى أبد الآبدين: أنا أدركته في الزمان، لكنني مستمر في استقبال هذا الاتحاد به، والامتلاء منه، ليس فقط خلال سنوات حياتي هنا، بل إلى الأبد. لهذا، الأبدية ستكون حالة من الذهول في الحب، حيث لا تشعر بالزمن، لأنه امتداد مستمر لعطاء الآب لابنه إلى الإنسان.
أما الشرير، فلماذا لم يدخل إلى النور؟ لأنه رفضه. ولكن هل توقف الابن عن إرسال نفسه إلى الشرير؟ لا، لأن هناك يومًا معيَّنًا للمجازاة، والدينونة لها ميعاد محدد. اللاهوت الغربي قد يقول: "بعد الموت لا توجد فرصة للنجاة"، لكن هذا ليس الفكر الأرثوذكسي: القديس إيرينيئوس يوضح ذلك بجلاء و قد تم سرد ما قاله في كتاب "التغير إلى صورة مجده"، حيث يشرح أن عطاء الابن مستمر، حتى لمن ماتوا، كما نجد هذا المبدأ في صلوات الترحيم والصلاة من أجل الذين سبقوا فرقدوا، والتي لا يخلو منها أي قداس، لأنها تعكس الإيمان الأرثوذكسي بأن الله لم يغلق الباب نهائيًا بعد الموت، بل يبقى عطاءه ممتدًا.
كيف ستكون الدينونة؟:
يقول القديس إيرينيئوس إنه عند ظهور ابن الله في مجده ومجد أبيه، ستتحقق هذه النبوة: "هُوَذَا سِرٌّ أَقُولُهُ لَكُمْ: لاَ نَرْقُدُ كُلُّنَا، وَلكِنَّنَا كُلَّنَا نَتَغَيَّرُ، فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ الْبُوقِ الأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ الأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ." (1 كو 15: 51-52). "ثُمَّ نَحْنُ الأَحْيَاءَ الْبَاقِينَ سَنُخْطَفُ جَمِيعًا مَعَهُمْ فِي السُّحُبِ لِمُلاَقَاةِ الرَّبِّ فِي الْهَوَاءِ، وَهكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ." (1 تس 4: 17): تعبير "السحاب" كان مناسبًا للمستمعين القدماء، لكن اليوم يمكن استخدام "الفضاء" للتعبير الأكثر دقة. ففي لحظة الدينونة، ستحدث ثلاثة أمور رئيسية وفقًا لتقسيم القديس إيرينيئوس:
1. الشريحة الأولى: الذين سيستيقظون من تراب الأرض أو سيتغيرون إلى صورة مجده، ويأخذون مكانهم في الموكب السماوي، حيث يجلسون معه في العرش: "مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضًا وَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي فِي عَرْشِهِ." (رؤ 3: 21).
2. الشريحة الثانية: الذين لم يبشروا بالمسيح في حياتهم لكنهم يرغبون فيه، ويظلون تحت النور لفترة ليتم تقديسهم، ثم يأخذون مكانهم لاحقًا.
3. الشريحة الثالثة: النفوس الرافضة للنور، التي ستهرب منه ولا تريد مواجهته. هؤلاء لن يدخلوا إلى المجد، بل قد اختاروا الظلمة لأنهم أحبوا الظلمة أكثر من النور: "وَهذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً." (يو 3: 19).
وهكذا، لا يوجد شيء اسمه "اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ!" (مت 7: 23) بمعنى الطرد القسري، بل هو شرح تصويرى يوصف حقيقة اختيار بعض النفوس لرفض النور والتوجه إلى الظلمة والجحيم ليس عقابًا يرسله الله، بل هو المعتقل الذي يسيطر عليه إبليس، حيث كان يحتجز النفوس. لكن الروح القدس ظل يعزي الراقدين على الرجاء.
ومن هنا، نلاحظ أن جميع أفعال الدينونة وردت بالمبني للمجهول: يُلقى في جهنم"، بدون تحديد الفاعل. "بَعْدَمَا يُقْتَل يُلْقَى فِي جَهَنَّمَ." (لو 12: 5). يُعاقبون بهلاك أبدي"، "الَّذِينَ سَيُعَاقَبُونَ بِهَلاَكٍ أَبَدِيٍّ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ وَمِنْ مَجْدِ قُوَّتِهِ،" (2 تس 1: 9). بدون قول "يعاقبهم الله".وهنا يبرز السؤال المهم: هل يوجد فرصة للخلاص لمن لم يعرف المسيح في حياته؟ الإجابة نعم! فاللاهوت الأرثوذكسي لا يقبل حتمية الهلاك بعد الموت، كما يتصور اللاهوت الغربي.
القديس إيرينيئوس يوضح أن النور سيقبله هؤلاء ويتطهرون به، بينما أغسطينوس رأى أنهم يدخلون في نار مطهرية كنوع من العقوبة للتطهير. وبالطبع، اللاهوت الغربي في الكنيسة الكاثوليكية اعتمد على رؤية أغسطينوس، لأنه كتب باللاتينية، بينما بقي اللاهوت الشرقي مجهولًا عند كثيرين في بلادنا. أما الفكر الأرثوذكسي، فيرى أن إرسالية المسيح إلى العالم ليست لحظة تاريخية، بل تمتد لما وراء الزمن، وتستمر إلى الأبد.
وبالتالي، عند ظهور ابن الله، سيكون أمام الإنسان ثلاث اختيارات
• قبول النور والاتحاد الكامل بالمسيح.
• البقاء تحت النور لفترة حتى يتم تقديسه.
• رفض النور تمامًا والهروب منه إلى الظلمة.
وهكذا، الدينونة تحدث عند ظهوره، حيث يدخل البعض إلى المجد، بينما يرفض آخرون النور باختيارهم الحر.
ما معنى أن أتحد بالمسيح؟
إذًا، أنا أستقبل الابن وأنمو في الاتحاد بجسده الممجد، وكلما تفيض فيَّ الحياة، يفيض فيَّ النور، وكلما أطيع بالمحبة، يتحقق ما قاله المسيح: "أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلًا." (يو 14: 23). وهكذا، المستوى الأول من العلاقة هو الطاعة تعبيرًا عن المحبة، حيث أُظهر محبتي من خلال حفظ الوصايا، فأتحد بالآب والابن، وأعيش في منزل الشركة الإلهية.
ولكن هذا يقودني إلى المستوى الأعمق، وهو ما عبر عنه بولس بقوله: "مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ." (غل 2: 20). هذا كله يحدث في الجسد، لم نتطرق بعد إلى الحياة بعد الجسد إلا بذكر أن عطاء الابن لنفسه أبدي. لكن عندما أنمو في الفهم الروحي، وأرتقي في الرؤية بالروح القدس، أبدأ بإعطائه نفسي بالمحبة، كما أنني استقبلت الحب، يجب أن أبادله الحب. وهذا ما شرحه القديسون، وكتب عنه أبونا متّى المسكين في كتاب "حياة الصلاة الأرثوذكسية". في الفصول الأولى من هذا الكتاب، ستجد كيف أن القديسين كانوا في الجسد، لكنهم انفصلوا تمامًا عن الإحساس بالعالم، وغرقوا بالكامل في السماء.
ما تعلمناه حتى الآن هو أننا نستقبل الحب ونمتلئ بالمسيح، ولكن هناك مستوى أعلى من الشركة، وهو أن أعطيه نفسي بالكامل، وأبادله الحب الحقيقي.كما أن العروس لا يمكن أن تكون عروسًا بدون أن تبادل العريس الحب، كذلك لا يكون الاتحاد بالمسيح كاملًا إلا عندما نُعطيه الحب، كما أعطانا ذاته. وهنا، يبدأ الإنسان أن يعيش السماويات فعليًا، حتى وهو في الجسد: "فَإِنَّ سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي السَّمَاوَاتِ، الَّتِي مِنْهَا أَيْضًا نَنْتَظِرُ مُخَلِّصًا هُوَ الرَّبُّ يَسُوعُ الْمَسِيحُ،" (في 3: 20). ما معنى "سيرتنا"؟ في بعض الترجمات، تُفسر بأنها "موطننا"، أي أن القلب والوعي والإحساس والتقدير للأمور والحب، يصبح كله مقدمًا للمسيح.
لهذا، نجد في سير الشهداء أن الذين وصلوا لهذه الدرجة من الحب، كانوا يترقبون يوم الاستشهاد للخروج من العالم، لأنهم بالفعل هاجروا روحيًا إلى السماء، وأصبحوا زائرين في الأرض. "فَإِنَّ سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي السَّمَاوَاتِ، الَّتِي مِنْهَا أَيْضًا نَنْتَظِرُ مُخَلِّصًا هُوَ الرَّبُّ يَسُوعُ الْمَسِيحُ." (في 3: 20).
عنوان المحاضرة القادمة: اليوم دينونة هذا العالم