يَحلُمُ المؤمنون دائمًا بنموذجِ بدايةِ الدعوة، كالتطبيقِ الأمثلِ للدعوةِ الإيمانيةِ التي دُعوا إليها، وهذا المنطقُ ينطبقُ عليَّ أنا شخصيًّا، كما ينطبقُ فعليًّا على كثيرٍ من قادةِ الأديانِ في العالم.
فعلى سبيل المثال، نموذجُ الكنيسةِ المسيحيةِ في أورشليم، أيامَ رُسُلِ المسيحِ الاثني عشر، كان ولا يزالُ حُلمًا جميلًا يُداعبُ خيالي منذُ الشبابِ المُبكِّر حتى اليوم، كما يُداعبُ حُلمُ الدولةِ التوراتيةِ جماعاتِ الحريديم (اليهود الأرثوذكس). ومن ثمَّ، نرى التطبيقَ مُنصبًّا على الفلسطينيين في غزة، بطريقةٍ تستعيدُ حُلمَ غزواتِ يشوعَ بنِ نون، وكذلك كثيرًا من المجموعاتِ الإسلاميةِ الحالمةِ باستعادةِ بداياتِ الدعوةِ والجذور.
على أنَّ انغلاقَ الفكرِ، وتعطُّلَ العقلِ عن السعيِ إلى فَهمِ وبلوغِ جوهرِ الدعوة، وتأويلِها في ثوبٍ تطبيقيٍّ يُناسبُ الوضعَ التاريخيَّ والجغرافيَّ والإنسانيَّ للإنسانِ المُعاصر، قد أثمرَ جماعاتٍ دينيةً مُشوَّهَةً، ومُشوِّهةً للدين، ومُنفِّرةً منه. وعندنا نموذجُ داعش خيرُ بُرهانٍ ودليل.
لكنَّ المأساةَ تبلُغُ ذُروتَها حينما يَستولي العقلُ الدينيُّ المُنغلقُ على زِمامِ السُّلطة، كما حدثَ عندنا في مصر، في السنةِ التي حكمَنا فيها الإخوانُ المسلمون، وكما حدثَ لإيرانَ لأكثرَ من أربعين سنة، وغيرها من دولِ الجوار.
البعضُ يظنُّ أنَّ رفعَ شعارِ الدولةِ المدنيةِ، مع التطبيقِ الناعمِ للدولةِ الدينية، سينجحُ في تحقيقِ الحُلمِ الدينيِّ المأمول؛ ولكن هذا غيرُ مُناسبٍ، وغيرُ قابلٍ للتحقيقِ مع العقليةِ المصريةِ المعاصرة.
الشرخُ الذي سيحدثُ في المجتمعِ المصريِّ لن يقتصرَ على الأقليَّةِ المسيحيةِ في مواجهةِ الأغلبيَّةِ المُسلمة، كما حدثَ في أيامِ الرئيسِ السادات والبابا شنودةَ الثالث (رحِمَهما اللهُ جميعًا)، فقد تغيَّرَ العصرُ، وتطوَّرَ الفكرُ الإنساني، وأحدثتْ ثورةُ الاتصالاتِ والسَّمواتُ المفتوحةُ نَقلةً هائلةً في تبادُلِ الفكرِ الإنساني.
ولم تعُدْ التركيبةُ السكانيةُ في مصرَ الآن، هي نفس التركيبةَ السكانيةَ التي كانتْ في عصرِ الرئيسِ السادات، وسيكونُ هذا الارتدادُ إلى الخلفِ، إلى عصورٍ تركَها الإنسانُ وتطوَّرَ عنها: سببًا في مزيدٍ من التغييرِ في التركيبةِ السكانية، وهَجر عشراتِ الملايينِ للدينِ والإيمان.
والسؤالُ المطروحُ الآن هو: أينَ ومتى في التاريخِ الإنسانيِّ، نجحتْ تجربةُ الدولةِ الدينيةِ، ولم تُخلِّفْ وراءَها آلافًا من الضحايا، والاضطرابات، وبُحورًا من الدماء؟ هل في روما وأوروبا المسيحية، أم في الدولةِ العُثمانيةِ والخلافةِ الإسلامية؟
وهذا فَضلًا عن أنَّ تحقيقَ مثلِ هذا الشرخِ في وحدةِ الأمَّةِ المصرية، هو الذي سيُحقِّقُ، على طبقٍ من فضَّة، حُلمَ "إسرائيل الكبرى" من النيلِ إلى الفرات.
حريةُ الإنسانِ واحترامُ إنسانيَّتِه، وتطبيقُ مواثيقِ حقوقِ الإنسان، هي دِرعُ الأمانِ الذي يقي الأُممَ والشعوب؛ فعلى الرغم من أنَّنا نعيشُ في أمريكا تَنوُّعًا هائلًا من الأعراقِ والأديان، إلا أنَّ الحريةَ والقانونَ، اللذَين يحترمان بالمساواةِ كلَّ الأعراقِ وكلَّ الأديان: حَفِظا للمجتمعِ الأمريكي هذا القَدرَ من المساواةِ والحريةِ والاستقرار.
بنسلفانيا – أمريكا
۲۹ أبريل ۲۰۲٥
لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "رأيٌ في الأحداث" اضغط على الرابط التالي: