السؤالُ الذي تكرّر على مسامعي كثيرًا: إذا كنتم تؤمنون بأنَّ المسيحَ هو ابنُ الله، فكيف يترك اللهُ من يدعوه ابنَهُ لهوانِ الصلب؟! أليس الموروثُ الإسلاميُّ بنجاةِ المسيحِ من مواجهةِ الصلبِ برفعهِ حيًّا إلى السماءِ أكثرَ كرامةً للمسيحِ من الموروثِ المسيحيِّ بصلبِهِ؟!
أسئلةٌ واقعيةٌ تستحقُّ التأمُّلَ والإجابة. وحتى نقتربَ من الحقيقةِ، ينبغي أن نتساءلَ أولًا: هل كان الصلبُ، وهو أداةُ الموتِ البشعةِ، مفاجئًا؟ أم فُرضَ على المسيحِ قهرًا؟ أم أنَّ المسيحَ قبلهُ بإرادتهِ لهدفٍ سامٍ سنتأكدُ منه مع مواصلةِ الحوار؟
لقد أكّدَ المسيحُ في الأناجيلِ أنّه يقبلُ الصلبَ بإرادتهِ، وأنه جاء من أجلِ هذه المواجهةِ مع الموت: "وَلَكِنْ لأَجْلِ هذَا أَتَيْتُ إِلَى هذِهِ السَّاعَةِ" (يو 12: 27)، وأنه خرجَ لمقابلةِ الذين أتوا للقبضِ عليه: "فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُمْ: «مَنْ تَطْلُبُونَ؟»" (يو 18: 4)، ولما قال لهم من تطلبون رجعوا إلى الوراء وسقطوا على وجوههم (يو 18: 6). وهذا يؤكِّدُ ما قالهُ في العشاءِ الأخيرِ: "لَيْسَ أَحَدٌ يَأْخُذُهَا مِنِّي، بَلْ أَضَعُهَا أَنَا مِنْ ذَاتِي. لِي سُلْطَانٌ أَنْ أَضَعَهَا وَلِي سُلْطَانٌ أَنْ آخُذَهَا أَيْضًا. هذِهِ الْوَصِيَّةُ قَبِلْتُهَا مِنْ أَبِي." (يو 10: 18)، قال هذا عن روحهِ الإنسانيةِ وعن موتهِ وقيامتهِ.
إذًا، فالمسيحُ لم يكن ممن يخشونَ الموتَ، أو يجبنونَ عن مواجهتهِ بالهروب؛ بل يؤكّدُ أنّه أتى إلى العالمِ من أجلِ هذه المواجهةِ مع الموتِ (يو 12: 27)، ومع ملكِ الموتِ، أي إبليس، الذي تسلّطَ بالموتِ والخطيئةِ على الخليقة: "الآنَ دَيْنُونَةُ هذَا العَالَمِ. الآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هذَا العَالَمِ خَارِجًا." (يو 12: 31). فلو كان الصليبُ قد انتهى بالموتِ، لكان هزيمةً وعارًا، ولكن الحقيقةَ أنَّ الموتَ أُبطلَ بالقيامةِ من الأمواتِ: "فَيَسُوعُ هذَا أَقَامَهُ اللهُ، وَنَحْنُ جَمِيعًا شُهُودٌ لِذلِكَ." (أع 2: 32). وأظنُّ ـ على قدرِ فهمي ـ أنَّ الموروثَ الإسلاميَّ أيدَ الموروثَ المسيحيَّ بأن اللهَ رفعَ المسيحَ إليه بعد أن مات (تُوفي): "إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ".
يظلُّ السؤالُ العميقُ مرةً أخرى: لماذا قبلَ المسيحُ بإرادتهِ الصلبَ ولم يتدخّلِ الآبُ لنجاتهِ؟ وما هي هذه المواجهةُ التي نتحدّثُ عنها؟
الإيمانُ المسيحيُّ في الإنجيلِ لا يرى أنَّ الموتَ حقٌّ على الإنسان، ولا أن الإنسانَ خُلقَ ليموتَ! بل يرى أنَّ الموتَ دخلَ إلى الخليقةِ (البشر) حسدًا وكيدًا من إبليس، من خلالِ طُعمِ وفخِّ الخطيئةِ الذي ألقاهُ للإنسانِ فابتلعتهُ البشريةُ. وصارت بالخطيئةِ والموتِ مُستعبدةً لإبليسَ الشريرِ. ومن ثمَّ، فقبولُ المسيحِ للصلبِ والموتِ به، هو قبولٌ للدخولِ في المواجهةِ مع الشيطانِ، ومع طغيانِ الموتِ الذي تسلّط به على الخليقةِ. ومن ثمَّ، فقد صارت قيامةُ المسيحِ من الأمواتِ عطيةً ممنوحةً للإنسانِ لكلِّ من يقبلهُ ويؤمن به؛ وصارت كذلك إعلانًا لهزيمةِ الشيطانِ وانتصارِ المسيحِ عليه؛ وهذه أيضًا صارت عطيةً ونعمةَ الحياةِ الجديدةِ الممنوحةِ للبشريةِ بقيامةِ المسيحِ، لكلِّ من يؤمنُ به.
فلو لم يكن المسيحُ قد غلبَ الخطيئةَ وانتصرَ على الشيطانِ في موقعةِ الصليبِ بقيامتهِ، لما كنا نحنُ نقوى على أن نغفرَ للمسيئين، ولا أن نحبَّ الأعداء، ولا كنا نستطيعُ أن نطردَ الشياطينَ ونتحكَّمَ في مملكةِ الشيطانِ باسمِ المسيحِ، ولا كنا الآن نستطيعُ أن نصلي من أجلِ المرضى فيبرؤون. فهذا كلُّهُ وغيرهُ نتائجُ انتصارِ المسيحِ على الشيطانِ وعلى الموتِ بالقيامةِ من الأمواتِ، وأنَّ قوةَ القيامةِ من الأمواتِ بالفرحِ والنصرةِ والأشفيةِ والمعجزاتِ قد صارت لخيرِ البشريةِ وسعادةِ الإنسانِ بقيامةِ المسيحِ.
بنسلفانيا – أمريكا
١٩ يوليو ٢٠٢٥
لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "لاهوت العهد الجديد" اضغط على الرابط التالي:
https://anbamaximus.org/articles/NewTestamentTheology