نحن كبشرٍ ننحدرُ - بالضَّرورةِ والحتميَّةِ - عن أجدادِنا الذين عاشوا غالبًا على نفسِ البُقعةِ الجغرافيةِ التي نشأنا فيها، مع اعتبارِ حركةِ الهجرةِ والاختلاط العالمي، ونشوءِ مجتمعاتٍ جديدةٍ تمامًا كأمريكا. وما زلنا نتوارثُ الموروثَ الفكريَّ الذي انحدر إلينا من الأقدمين كموروثٍ تاريخيٍّ ثقافيٍّ متحفيٍّ؛ كالمومياواتِ والتماثيلِ الفرعونيةِ في مصر، وندرسُ كيف عاش أسلافُنا الأقدمون، وكيف حاربوا، وحكموا أو حُكِموا، وقد شغلتنا الدهشةُ من حجمِ التطوُّرِ الهائل الذي طرأ على المجتمعاتِ البشريةِ، وعلى الإنسان بين الماضي والحاضر.
هذا التطوُّرُ الهائلُ في شكلِ المجتمعاتِ البشريةِ، والمدنِ والمباني، وأساليبِ وأدواتِ الزراعةِ والحربِ وغيرِها من أنماطِ الحياةِ والاتصالاتِ، لم يقتصر فقط على الشكلِ والجوهرِ العمرانيِّ أو المدنيِّ للمجتمعات؛ بل طال الإنسانَ نفسهُ في قدرتهِ الذهنيةِ والمعرفيةِ، وفي العلاقاتِ البينيةِ بين الأفرادِ والشعوبِ، وفي الفكرِ والثقافةِ والاختراعاتِ المُذهِلة، والتطوُّرِ الهائلِ الذي غيَّر حياةَ الإنسانِ المعاصر، وأسلوبَ تفكيره إذا ما قُورنت بحياةِ أسلافهِ.
كلُّ شيءٍ قد تغيَّر في حياةِ الإنسانِ المعاصرِ، حتى بات أسلوبُ حياةِ أجدادِنا الأقدمين تراثًا متحفيًّا يُستثمرُ سياحيًّا للأجيالِ الجديدة. وإذا أضفنا إلى هذه المتغيراتِ الهائلةِ التي طرأت على حياةِ البشرِ، هذا الابتلاءَ المُروِّع المُسمّى: "الحرية"، الذي غمرَ الكرةَ الأرضيةَ في العصرِ الحديثِ، بديلًا لطوفانِ نوح الذي حكى عنه تراثُ الأقدمين.
الإنسانُ المعاصرُ متشابهٌ في الملامحِ والصفاتِ الوراثيةِ مع أسلافهِ، لكنه صار مختلفًا اختلافًا جوهريًّا عن القدماءِ في أسلوبِ حياتِه وطريقةِ تفكيرِه. وهذه هي الحداثةُ التي فرضت نفسَها على الواقعِ الإنسانيِّ بفعلِ التَّطوُّرِ والتغييرِ وحركةِ التاريخ. وبينما اجتاح التغييرُ والتطوُّرُ كلَّ أشكالِ الحياةِ البشريةِ، حتى عقلَ الإنسانِ نفسِه وأسلوبَ حياتِه وطريقةَ تفكيرِه، قام الفلاسفةُ والمفكرونَ في الغربِ بإعادةِ صياغةِ العقلِ الإنسانيِّ، حتى أنَّ بعضَ الحركاتِ الإيمانيَّةِ طوَّرت طريقةَ فَهْمِ الدِّين، فكان مجمعُ الفاتيكانِ الثاني الذي طوَّر الكنيسةَ الكاثوليكية، وكانت حركةُ التجديدِ اللاهوتيِّ التي خرجت من الكنيسةِ الأرثوذكسيةِ الروسيَّةِ قد أعطتنا أسلوبَ قراءةٍ جديدًا للتوراةِ بعيونِ إنجيلِ المسيحِ ونضجِ العقلِ الإنسانيِّ، حتى إن البابا الراحل "فرنسيس الأول" بابا روما نادى في بدايةِ تنصيبِه بتحديثِ الكُتبِ المقدسةِ العتيقة.
وفيما طال التغييرُ والتجديدُ كلَّ شيءٍ في حياةِ البشريةِ وفي عقلِ الإنسانِ وحداثةِ تفكيرِه، فإنَّ البعض عندنا في الشرقِ ما يزالون يتحدَّثون عن قديمِ موروثاتِ الأجدادِ كمنهاجٍ فكريٍّ: "صالحٌ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ"، مما جعل "وكلاءَ اللهِ على الأرضِ" (بحسبِ ظنهم)، و"مُلّاكَ الحقيقةِ المُطلقةِ" (كما يتصوَّرون)، في موقفٍ مثيرٍ للدهشةِ والشفقةِ والتعجُّبِ من الإنسانِ المعاصر الذي اعتادَ إعمالَ عقلِه. والمؤسفُ والمحزنُ أنَّ جمودَ أصحابِ فكرةِ "لاَ تَنْقُلِ التُّخْمَ الْقَدِيمَ" التي قيلت تاريخيًّا عن حدودِ الأملاكِ والأراضي، وليس عن العقلِ والفكر ! ينسبونَ جمودَهم الفكريَّ إلى اللهِ والدِّينِ والإيمان.
فهل تتوقَّعون أن يحدثَ صِدامٌ ثوريٌّ صِراعيٌّ كما حدث بين الكنيسةِ والثورةِ الفرنسيةِ؟ أم تتوقَّعون تغييرًا فكريًّا ناعمًا كما حدث في حركةِ التجديدِ اللاهوتيِّ الأرثوذكسيِّ في الكنيسةِ الأرثوذكسيةِ الروسيَّة ؟! أم تتوقَّعون حدوثَ التغييرِ الناعمِ أولًا، ثم الصِّدامي لاحقًا؟ أو الحلَّ السهلَ الذي اجتاح قطاعاتٍ كثيرةً في العالم، وهو أن هجر الملايينُ الإيمانَ وتركوا الدِّينَ لأصحابِ القديمِ!
أما السؤالُ المُلحُّ تأقلمًا وتعايشًا مع ما يحدث عندنا في الشرقِ الأوسطِ من متغيراتٍ على أسنَّةِ (الصواريخ): هل المتغيراتُ السياسيةُ والعسكريةُ التي تحدثُ الآن بمعزلٍ عن متغيراتٍ ثقافيةٍ وفكريةٍ وأيضًا دينيةٍ قادمةٍ أم لا؟!
بنسلفانيا – أمريكا
١٥ يونيو ٢٠٢٥
لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "رأيٌ في الأحداث" اضغط على الرابط التالي:
https://anbamaximus.org/articles/Ra2yFeElahdath