واحدةٌ من المرّاتِ القليلةِ التي جلستُ فيها مع أبينا متّى المسكين أَشكو إليه همّي، وأُصغي إلى إرشاده، كانت في صيفِ عامِ 1976، بعدما سُرِّحتُ من الخدمة في إيبارشية الغربية بناءً على أمرٍ بابويّ، لأنني كنتُ قد كتبتُ مقالًا في مجلة مرقس نُشر في عدد مايو 1976، تحدّثتُ فيه عن الامتلاء بالروح القدس، وأننا هيكلٌ لله، وروحُ اللهِ يسكُن فينا —وكانت هذه هي التهمة والجريمة !— فلما ضاق عليَّ الخناق، وسُدّت الأبواب في وجهي، أشار عليَّ بعض الأصدقاء أن أذهب إلى أبينا متّى المسكين لسماع مشورته.
جلس الشيخُ التقيُّ أمامي مُحنيًا رأسه، دون أن يرفع بصره إلى عينيَّ ولو مرّةً، مُصغيًا بصبرٍ وأناةٍ حتى فرغتُ من حديثٍ طويلٍ حكيتُ فيه قصتي كاملةً، من بدايةِ تبعيتي للمسيح حتى إنهاء خدمتي في إيبارشية الغربية. ثم رفع رأسه ليُحدّثني قائلًا:
"طبعًا حضرتك إكليريكي... وواخِد ع الكراسي الأستك... يا كنيسة ومنبر... يا متعرفش تِخدم... روح يا أستاذ، بَشِّر الناس... في بيتك وبيوت الناس وفي الشوارع."
اكتشفتُ مُبكرًا ولأول مرة في حياتي، أن قيودَ الحديدِ لم تقدر أن تُقيّد كلمةَ اللهِ في فم الأسيرِ بولس (٢ تي ٢: ٩)، ولا في أفواه غيره من المناضلين من أجل الحرية. أمّا أنا، فقد كنتُ مُكبّلًا بالقيود، ومُحاصرًا بغير أسوار سجنٍ ولا سلاسل الحديد؛ إنّها قيودُ الخوفِ من الإنسان، ومن تهديده، ورهبةُ استخدامه لأدوات تسلُّطه وسلطانه. وما فعله أبونا متّى في تلك الجلسة أنه نقل إليَّ وسلّمني —بغير إفصاحٍ عن السر— روح الحرية من عبودية البشر، فأنار عقلي وذهني وأبصرتُ الحقيقة: أن المسيح هو رأس كل سُلطان، وأنني كرّستُ حياتي لخدمته، وهو رأسي وراعيَّ وضامني. وشعرتُ للحال، وأنا جالسٌ أسمع كلماتِ الحرية الخارجة من فمه، أن القيود قد سقطت من يدي، ومن على عقلي، وأن الأرض كلّها ساحةٌ مفتوحةٌ أمامي للتبشير بالإنجيل.
خرجتُ من الديرِ من عند أبينا متّى في اليوم التالي عائدًا إلى القاهرة، أتطلّع إلى الصحراء الواسعة من حولي حتى وصلتُ إلى عمران المدينة بإحساس الحرية والانتصار: أن كل هذه المساحات الواسعة هي أراضٍ للامتلاك —بالمعنى الروحي— وأن العالم كلّه مُخضعٌ لسلطان المسيح، رغم أنه مُقيَّدٌ في قطاعات كثيرةٍ بسلطان الشياطين، الذين يحكمون البشر في العالم، وفي الكنيسة، وفي بيوتهم، وعائلاتهم.
لمّا عُدتُ إلى البيت وجلستُ إلى الإنجيل المقدّس، وجدتني أتواجه مع عبارة الرسول بولس: "قَدِ اشْتُرِيتُمْ بِثَمَنٍ، فَلاَ تَصِيرُوا عَبِيدًا لِلنَّاسِ." (1 كو 7: 23)، العبودية تعني الخوف من الناس، والقيود الداخلية قبل أن تصبح خارجية، أمّا الحرية فتعني مخافة الله، وطاعة الله أكثر من الناس (أع ٥: ٢٩)، وإكرام السلطة والقانون (١ بط ٢: ١٧). وأظن أن القديس أوغسطينوس قد لخّصها في عبارته المشهورة: "وقفتُ على قمة العالم، عندما أحسستُ أنّي لا أخاف شيئًا في العالم، ولا أشتهي شيئًا مما فيه."
الناس ليس عندهم شيءٌ يعطونه، وإذا أعطاك الإنسان بغير المحبة، فلن يعطيك بغير مقابل، وسوف يكون هذا المقابل في بعض الأحيان حريتك، وربما حياتك الأبدية نفسها، إذا كانت المساومة والمقابل على الحقّ نفسه.
المسيح هو رأس كل رياسة وسلطان (كو ٢: ١٠)، منه تصير إليك عطية حياته، وعطية روحه القدوس، وقوة القيامة. ومنه يخرج إليك، ويصير لك تعينك، وإرساليتك للخدمة، وللحياة الأبدية التي إليها دُعيت.
بنسلفانيا – أمريكا
في ذكرى نياحة أبونا متى المسكين 8 يونيو 2025
لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "لاهوت العهد الجديد" اضغط على الرابط التالي: