رأيٌ في الأحداث (٣٧) | عيدُ نياحةِ أبينا متّى المسكين
Jun 19, 2025 189
980 79

رأيٌ في الأحداث (٣٧) | عيدُ نياحةِ أبينا متّى المسكين

تردَّدتُ كثيرًا في كتابةِ هذه الشهادة، ولذلك تأخَّرتُ عن موعدها -عيد نياحة أبينا الكبير "الأب متّى المسكين" 8 يونيو 2006. لكنني، تحتَ ضغطٍ وإلحاحٍ عميقٍ في داخلي -أظنّه من الرّوح القدس- قرّرت أن أكتب شهادتي واختباري عن أبينا متّى المسكين.

أنا لم أكن تلميذًا مباشرًا لأبونا متّى، وعددُ المرّات التي التقيتُهُ فيها لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ولكنّي عرفته من كتبهِ التي تتلمذتُ عليها منذ أن كنتُ طالبًا في المدرسة الثانوية. ولمّا حضرتُ إلى القاهرة، منضمًّا إلى الكلية الإكليريكية كطالب، عرّفني زميلي العزيز الدكتور القمّص أثناسيوس كامل -الذي كان من إيبارشية بني سويف - على مكرّس الشباب الجميل في بني سويف آنذاك: الدكتور إيميل عزيز، الذي صار فيما بعد نيافة الأنبا موسى أسقف الشباب في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية. والحقيقة التي أعتز بها: أنّني أحببته حبًّا عظيمًا وصرتُ تلميذًا له، وكان أب اعترافي بعدما صار أسقفًا، حتى غادرتني الكنيسة القبطية ولجأتُ إلى الكنيسة الروسية (الرسولية). وبينما أمرني مشرف داخلية الطلبة في الكلية الإكليريكية، القمص شنودة السرياني -الذي صار لاحقًا نيافة الأنبا يؤانس أسقف الغربية- أن أكف عن قراءة كتب أبينا متى المسكين، وعن زيارة بيت التكريس بحلوان (تلاميذ أبينا متّى المسكين) كان الدكتور إيميل عزيز (الأنبا موسى) يستردّني ثانية إلى مدرسة أبيه الروحي آنذاك "أبونا متّى" بحديثه المتدفّق عنه، وعن خبرته الروحية العميقة، وكان يقول لي: "أنا نفسي الكنيسة تسمع أبونا متّى؛ علشان تسمع اللي عمرها ما سمعته!".

ومن خلال الدكتور إيميل عزيز (الأنبا موسى) عرفتُ معلّمي وحبيبي الراحل الدكتور نصحي عبد الشهيد، الذي دعاني وضمّني لاحقًا إلى مجموعة خدّام بيت التكريس -الذي كان قد انتقل من حلوان إلى حدائق القبة- وكان هو أمينًا لبيت التكريس بعدما سلّمه له أبونا متّى باتفاقٍ بينهما.

في السنة الرابعة في الكلية الإكليريكية، عاد الراحل العزيز الدكتور جورج بباوي من بعثته في جامعة كامبريدج إلى مصر، ونشأت بيني وبينه علاقة مودة وتلمذة، استمرّت حتى أسبوع رحيله. على أنّ علاقتي بالدكتور جورج بباوي كانت سببًا في مفارق التحوّلات في حياتي:

  • أوّلًا: لأن الدكتور جورج بباوي بدأ يتحدّث مع طلبة البكالوريوس -الذين كنتُ واحدًا منهم آنذاك- عن تعليم الآباء الأرثوذكس، وبلغت دهشتي أن الإكليريكي الذي درس في بريطانيا يُردّد نفس التعليم الذي يردّده أبونا متّى المسكين الذي درس كتب الآباء في صحراء مصر. ولم أكن أعلم وقتها أن خالي الدكتور شفيق أسعد، الذي كان يدرس الدكتوراه في أكسفورد في بداية خمسينيات القرن الماضي، هو الذي أحضر أوّل مجموعة من كتب الآباء إلى مصر وأهداها إلى دير السريان، حيث تتلمذ عليها أبونا متّى المسكين الذي كان راهبًا آنذاك في دير السريان (وهذه شهادة أبونا متّى نفسه وقد أيّدها الدكتور جورج بباوي).
  • ثانيًا: بعدما تخرّجتُ من الكلية الإكليريكية انضممتُ للخدمة مع نيافة الأنبا يؤانس في إيبارشية الغربية، ولما كنت أعيش معه في نفس المبنى أنا وتلميذه (شماسه الخاص)، كنّا نتناول الطعام على مائدته يوميًّا بانتظام. حتى جاء يومٌ جلستُ معه وتلميذه على مائدة العشاء كالمعتاد، وكان الرجل حزينًا غاضبًا حتى إنه لم يقدر أن يمدّ يده للطعام، ولكنه بارك المائدة فبدأنا نأكل. وبينما نحن نتعشّى، أمسك بمجلة مرقس بيده
    - وسألني: "هل أنت من كتبت هذا المقال في مجلة مرقس؟"
    - فأجبته: "نعم".
    - فقال لي: "ما هذا الذي تكتبه عن الروح القدس؟!"
    - فأجبته: "لم أقل شيئًا يخالف ما تعلّمته عن الآباء.. ما هو الخطأ فيما كتبتُ يا سيدنا؟"
    - فأجابني: "تعرف كم أحبك، ولكن لا تجادلني. اذهب إلى من علمك اللاهوت وتناقش معه".

قمنا عن العشاء الذي لم يأكل منه لقمة واحدة، وجلس على كرسيه، ووقفت أمامه محاولًا أن أسترضيه باتضاع
- وقلت: "اللي تؤمر بيه أنا هعمله".
- فأجابني: "إما أن تقول كما نقول نحن، أو أنك ستضطر إلى مفارقة الخدمة معي".
وقبل أن أجيب، سمعتُ صوت الروح القدس في داخلي فأحنيتُ رأسي،
- فقال لي الرب: "إذا أنكرتني فأنا أيضًا سأنكرك".
كنتُ ما زلت واقفًا أمام أسقفي الحبيب الأنبا يؤانس، فلما أحنيت رأسي لصوت الروح القدس، كانت الانحناءة أمام أبينا الأسقف أيضًا،
- فأجبتُ الرب: "حاشا يا سيدي أن أنكرك".
فلما رفعت رأسي
- أجبتُ الأنبا يؤانس: "أعتذر منك، فأنا لا أستطيع أن أقول بغير ما تعلّمت من الآباء".
- فأجابني بكل محبة: "إذًا ينبغي أن تغادر"،
وودّعني بمبلغ من المال وكثير من المحبة، فغادرت المطرانية في اليوم التالي.
ذهبتُ إلى الأنبا غريغوريوس وعرضتُ عليه ما حدث بيني وبين أسقفي المحبوب،
- فأجابني: "يا ابني، ما دمتَ استعملت تعبيرات الإنجيل فأنت لم تُخطئ".
وكان الخلاف على النص: "أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ، وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟" (١ كو ٣: ١٦).
التقيت بالدكتور جورج بباوي، وسألني عن آخر ما وصلت إليه مشكلتي مع "البابا"،
- فأجبته: "لا جديد، أنا بلا خدمة منذ أن تركتُ إيبارشية الغربية"،
وكنت أقيم بشقة خالي بباب اللوق، وأتردد في زيارات للدكتور نصحي في بيت التكريس. وكان الدكتور جورج بباوي وقتها مقرّبًا للبابا ووكيلاً للكلية الإكليريكية في قسمها المسائي،
- فقال لي: "أوعدني أن لا تذهب مرة أخرى لا إلى بيت التكريس، ولا إلى دير أنبا مقار، وأنا أعدك بحل مشكلتك مع البابا".
فأجبته بالإيجاب.
في تلك الأثناء ذهب والدي إلى نيافة الأنبا يؤانس -بحكم أن عائلتنا من رعايا إيبارشية الغربية-
- يسألانه: "يا سيدنا، أنت تحب مكسيموس، وهو ابنك، كيف حدث هذا له عندك؟"
- فأجابهما: "الأمر خارج من عند البابا، وليس لي يدٌ في شيء"
(كان عمري وقتها ٢٦ سنة).
دعاني الراحل العزيز عزت فوزي -الذي كان أمينًا لخدمة كنيسة الأنبا أنطونيوس بشبرا- إلى الخدمة في كنيسته،
- وسألني بعدها: "ما أخبار مشكلتك مع البابا؟"،
- فأجبته: "الدكتور جورج بباوي وعدني بحل المشكلة بشرط أن أتوقف عن زيارة بيت التكريس ودير أنبا مقار".
- فقال لي: "وبماذا أجبته؟"،
- فقلت: "أجبته بنعم ووعدته أن أفعل".
- فأجابني: "نعم، بهذا الشكل ستحل مشكلتك وتعود للخدمة في الكنيسة، ولكن ستكون هذه آخر مرة في حياتك تستطيع أن تقف على المنبر وتشهد للحق!".
كانت مواجهة قوية مع صوت الروح القدس، روح الحق، وكما فعلت في المرة الأولى حينما كنتُ منحيًا برأسي أمام الأنبا يؤانس، وقلتُ للروح القدس لن أنكرك، هكذا وقع توبيخ الروح القدس لي على فم الأخ عزت فوزي موقعًا حسنًا، وقرّرت أن أواصل طريق الآباء والشهادة للحق، مهما كانت التكلفة.
التقيتُ الدكتور جورج بباوي وأخبرته أنني كسرت اتفاقي معه، وذهبتُ إلى بيت التكريس والتقيتُ بالدكتور نصحي عبد الشهيد، فغضب مني غضبًا شديدًا،
- وقال لي: "هذه نهاية علاقتك بي!"،
ولم أره من وقتها حتى تم طرده هو الآخر، وترك مصر ثم إنجلترا، وجاء مستقرًا في ولاية إنديانا في أمريكا. وهكذا أتيتُ أنا أيضًا إلى أمريكا، وتواصلتُ معه، وواصلنا المحبة التي زرعها المسيح بيننا حتى أسبوع رحيله.

هذه هي قصة انتشار تعليم الآباء ولاهوت الآباء الأرثوذكس في الكنيسة المصرية، من خلال الأسماء التي ذكرتها في قصتي، وقد تشرفتُ بأن أكون الأخير والصغير بينهم. وهكذا أكون قد شرحتُ لمن يريد أن يعرف، وللتاريخ، سبب الكراهية والظلم والاضطهاد الذي لاقته تلك الشخصيات العزيزة: الشهادة للحق ولتعاليم الآباء الأولين.

نسيتُ أن أخبركم: عندما كنت عضوًا في بيت التكريس، أشركني الدكتور نصحي عبد الشهيد مع أربعة آخرين في تأسيس مؤسسة القديس أنطونيوس، وقد قامت المؤسسة بمجهود هائل في تعليم اللغة اليونانية لكوادر المكرّسين، وساعدنا الأستاذ صموئيل كامل عبد السيد، الذي دعاه بدوره أبونا متّى المسكين لتعليم اللغة اليونانية لرهبان دير الأنبا مقار. طبعًا انسحبت من المؤسسة بعد انضمامي إلى كنيسة أرثوذكسية أخرى، لكن المؤسسة قامت بدور عظيم في إرسال البعثات إلى اليونان لدراسة لاهوت الآباء، وفي ترجمة كتابات الآباء الأولين.

 

بنسلفانيا – أمريكا

١٣ يونيو ۲۰۲٥

 

لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "رأيٌ في الأحداث" اضغط على الرابط التالي:

https://anbamaximus.org/articles/Ra2yFeElahdath

Powered By GSTV