رأيٌ في الأحداث (۲۸) | أفلا يَعقِلون؟
May 11, 2025 22
980 79

رأيٌ في الأحداث (۲۸) | أفلا يَعقِلون؟

بحسبِ روايةِ التوراةِ، فإنَّ إخوةَ يوسفَ – أبناءَ يعقوبَ – قد باعوا أخاهم يوسفَ عبدًا لقافلةٍ من الإسماعيليين، الذين باعوا يوسفَ لفوطيفارَ في مصر. ثم إنَّ يوسفَ تحوَّل بسببِ أمانتهِ للربِّ إلى مُشيرٍ لفرعونَ، وصار الرجلَ الثاني بعده في مملكةِ مصر العظيمة. وحدثتِ المجاعة، وأتى إخوةُ يوسفَ الذين باعوه يطلبون قمحًا من مصر. وتكتملُ فصولُ القصةِ بأن يُرسل يوسفُ مركباتٍ ليُحضر أباهُ وأسرتهُ من أرضِ كنعان ليعيشوا معه في أرضِ مصر. ويموت يوسف، ويأتي فرعونٌ لا يعرف من هو يوسف، ويستعبد بني إسرائيل في أرضِ مصر حتى يخرج من بينهم الفرعونُ العبرانيُّ موسى النبي، الذي يقود العبرانيين في حملةِ هجرةٍ من استعبادِ المصريين لهم؛ للعودة إلى الأرض التي أتى منها آباؤهم.

ولأن النبي موسى تربى وترعرع في قصر فرعون، فقد عُوملَ كأميرٍ فرعوني، وتعلم كل حكمةٍ وثقافةٍ وآداب المصريين؛ فلما أخرج العبرانيين من مصر، كان مؤهلًا للقيادة والحكم، فوضع للعبرانيين تشريعًا مُتكاملًا واعيًا، نَسَبَه إلى الإله الواحد، إذ كان قد تعلم التوحيد من المصريين: "اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ." (تث 6: 4).

لا يمكننا أن نقول إن موسى نقل نسخةً طبق الأصل من الحضارة المصرية، بل بالعكس، فهو على قدر ما استفاد من الحضارة المصرية، على قدر ما تعامل مع الواقع: أن شعبه عُوملوا كعبيدٍ في أرض مصر لسنين طويلة، ومن ثم فقد أتت شريعته (ناموس موسى) متسقةً مع حال العبيد تثقيفًا وتأهيلًا، وأيضًا حكمًا بالحديد والنار: فمن ناحيةٍ نسب كلَّ أحكام الشريعة بما في ذلك الوصايا الصحية والتنظيمية إلى الإله الواحد الكلي؛ فمن يعصها فهو يعصي الإله ! ولمزيدٍ من الضبط والتشدد، أمر الشعب اليهودي بإبلاغ الأخ عن أخيه إذا ارتد عن عبادة الإله الواحد "إله إسرائيل"، وأن تكون عقوبة هذا المرتد عن عبادة الإله الواحد هي الرجم بالحجارة حتى الموت: "بَلْ قَتْلًا تَقْتُلُهُ. يَدُكَ تَكُونُ عَلَيْهِ أَوَّلًا لِقَتْلِهِ، ثُمَّ أَيْدِي جَمِيعِ الشَّعْبِ أَخِيرًا." (تث 13: 9).

مما هو جديرٌ بالذكر، أن عبارة حرية الإنسان لم ترد ولا مرة واحدة في توراة موسى النبي، بينما ترددت في المقابل عبارة الرجم بالحجارة، أو القتل حتى الإبادة الجماعية مرات كثيرة: "فَالآنَ اقْتُلُوا كُلَّ ذَكَرٍ مِنَ الأَطْفَالِ. وَكُلَّ امْرَأَةٍ عَرَفَتْ رَجُلًا بِمُضَاجَعَةِ ذَكَرٍ اقْتُلُوهَا." (عد 31: 17). وعلى الرغم من أن هذا هو واقع توراة موسى النبي، والتشريع الذي قاد به شعبه للتحول من بيئة وثقافة العبيد إلى تكوين مجتمع جديد؛ فإن البعض ما يزال يُردد حتى اليوم عبارة أن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، لأنها من عند الله؛ وكأن الله – حاشا لله – غير مُدركٍ لواقع الناس الذين حُكموا بتوراة موسى النبي، وغير مدرك أيضًا لتطور الإنسان وتغيره عبر الأزمان !

مات موسى النبي وخلفه يشوع بن نون، ومات يشوع بن نون ومرت آلاف السنين، وعاد بنو إسرائيل إلى أورشليم، وأعادوا تأسيس دولة إسرائيل سنة 1948، ورفعوا شعار "الدولة العبرية"، ولم يحكموا ولا مرة واحدة بوصية من وصايا القمع والقتل والرجم التي نصت عليها التوراة، إلا وصية تقديس يوم السبت ! بينما ما يزال البعض في بلادنا يرددون عبارة: الشريعة مناسبة لكل زمان ومكان ! وما يزال البعض يحلمون بقتل المرتد، وبسبي النساء والأطفال في الغزوات كما فعل تنظيم داعش باسم الشريعة والدين والإيمان بالله.

موسى النبي قال عشرات المرات في التوراة إن ما يوصي به ويفعله هو أقوال وأوامر الله "وَإِذَا دَفَعَهَا الرَّبُّ إِلهُكَ إِلَى يَدِكَ فَاضْرِبْ جَمِيعَ ذُكُورِهَا بِحَدِّ السَّيْفِ." (تث 20: 13)، بينما أكّد المسيح له المجد أن وصية الله ومشيئة الآب السماوي هي: "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ،" (مت 5: 44). فهل نحن أمام إلهين: إله للتوراة، وإله آخر للإنجيل ؟! أم أننا أمام إله واحد يُناقض خطابه في العهد الجديد ما تكلّم به في العهد القديم؟!

الحقيقة أنه لا إله إلا الله، الإله الواحد الكلي، خالق الأكوان؛ لكن المشكلة موجودة في عقول رجال أمسكوا بالأبواق والميكروفونات، وأعلنوا أنهم حماة الأديان وخلفاء الرسل والأنبياء، وأنهم وحدهم الذين يمتلكون الحقيقة المطلقة ويتكلمون باسم الإله للناس ! وما لا يُخطئه العقل البصير: أن هؤلاء الرجال لم يُدركوا أن الله لم يُكلم الأنبياء إلا وحيًا أي إلهامًا، ومادام الوحي إلهامًا فإن مُتلقي الوحي يُعبّر عنه بلغته، وكما فهمه. وهكذا جاءت توراة موسى النبي عنيفة طبقًا لحالة الشعب الذي يقوده، والشعوب التي يواجهها، بينما جاء إنجيل المسيح مليئًا بالمحبة والرحمة للإنسان.

أفلا يَعقِلون؟

 

بنسلفانيا – أمريكا

۸ مايو ۲۰۲٥

 

لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "رأيٌ في الأحداث" اضغط على الرابط التالي:

https://anbamaximus.org/articles/Ra2yFeElahdath

Powered By GSTV