كان الرئيس عبد الناصر وطنيًا بامتياز، وعلى الرغم من دعم أمريكا لثورة الضباط الأحرار، إلا أنه لم ينسْ ما حدث معه في حرب 48 على أرض فلسطين، ويبدو من التاريخ والأحداث أن نجاح عبد الناصر في تحدي أمريكا: في إتمام تمويل مشروع "السد العالي"، وتدخل الاتحاد السوفيتي أناذاك (روسيا حاليًا)؛ لإنجاز مهمة تصنيع التوربينات، ونجاح مشروع السد العالي بدون أمريكا: كان قد أنساه مخاطر تحدي أمريكا؛ وكان قد نسي قبل ذلك أن إسرائيل هي الولاية الأمريكية الواحدة والخمسون!
حتى انطفأت الأنوار في البيوت والشوارع ونحن على أبواب امتحان الثانوية العامة؛ مُعلنة حرب الأيام الستة (٥ يونيو ۱۹٦۷)، وخطة "اصطياد الديك الرومي"، وخسارة الحرب، واستيلاء إسرائيل على سيناء، والجولان السوري، وضم الضفة الغربية، وغزة، والقدس الشرقية إلى إسرائيل.
كان عندنا رئيس وطني يحلمُ بالمبادئ -كغيره من الثوار- في عالم لا يؤمن إلا بالقوة، وبظلم الضعفاء لصالح غطرسة الأقوياء، ولم نكن قد وعينا بعد معنى السياسة والدهاء؛ حتى خلفه الثعلب الداهية: الرئيس السادات: الذي حرر ۲۰% من سيناء بالحرب في ٦ أكتوبر، بينما حرر باقي سيناء بالسياسة والدهاء.
دهاء السياسة وخداعها هو الذي يُصدِر عبر الإعلام الصهيوني: رسائل عن قوة الجيش المصري، وأنه يستطيع أن يسحق إسرائيل بسهولة ...الخ؛ حتى ينتشي البسطاء منا بإحساس القوة بشهادة العدو نفسه !؛ بينما هذا الخطاب يُشبه تمامًا صرخة إسرائيل في مواجهة تهديد عبد الناصر: بأن يُلقي بإسرائيل في البحر؛ إنه دهاء السياسة لاستدعاء القوة الأمريكية -التي قد تَورّط رئيسها هذه المرة بنفسه في المواجهة- وتنفيذ دور السياسة الأمريكية (بصفته الرئيس)؛ لتكميل الحلم الصهيوني بتتويج المسيح اليهودي على إسرائيل.
عبقرية الإستراتيجي المصري تجلت في إنشاء منطقة عازلة بعمق ٤ كيلو على حدود مصر مع إسرائيل (غزة)، وبناء سور يفصل المنطقة العازلة عن سيناء مصر، والسور ظهره ناحية مصر؛ فإذا دخل بعض الفلسطينيين إلى المنطقة العازلة فسيكون على أرضٍ مصرية وفي حمايتها؛ ثم أنهم لن يكونوا قد تغربوا بعيدًا عن أرضهم، بل سيشكلون هم أنفسهم المنطقة البشرية العازلة بين مصر وإسرائيل.
يقول السيد المسيح في الإنجيل: "وَمَنْ مِنْكُمْ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بُرْجًا لاَ يَجْلِسُ أَوَّلًا وَيَحْسِبُ النَّفَقَةَ، هَلْ عِنْدَهُ مَا يَلْزَمُ لِكَمَالِهِ؟ لِئَلاَّ يَضَعَ الأَسَاسَ وَلاَ يَقْدِرَ أَنْ يُكَمِّلَ، فَيَبْتَدِئَ جَمِيعُ النَّاظِرِينَ يَهْزَأُونَ بِهِ، قَائِلِينَ: هذَا الإِنْسَانُ ابْتَدَأَ يَبْنِي وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يُكَمِّلَ. وَأَيُّ مَلِكٍ إِنْ ذَهَبَ لِمُقَاتَلَةِ مَلِكٍ آخَرَ فِي حَرْبٍ، لاَ يَجْلِسُ أَوَّلًا وَيَتَشَاوَرُ: هَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُلاَقِيَ بِعَشَرَةِ آلاَفٍ الَّذِي يَأْتِي عَلَيْهِ بِعِشْرِينَ أَلْفًا؟ وَإِلاَّ فَمَا دَامَ ذلِكَ بَعِيدًا، يُرْسِلُ سِفَارَةً وَيَسْأَلُ مَا هُوَ لِلصُّلْحِ." (لو 14: 28-32).
بنسلفانيا – أمريكا
۲٥ مارس ۲۰۲٥
لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "رأيٌ في الأحداث" اضغط على الرابط التالي: