قصدت أن أصدم القارئ بهذا العنوان الفج؛ ليتواجه مع واقع الثقافة الشعبية التي تسيدت في مجتمعاتنا؛ وقد ربونا عليها وتشربناها بغير وعي؛ والمثير حقًا للشفقة في هذا التدين الشعبي: هو أن الله القدوس صار بهذا؛ خادمًا ومنفذًا لمشيئة البشر الانتقامية؛ بإسم الصلاة والدعاء! وأنه صار شريرًا مثلهم، انتقاميًا، وخرابًا للبيوت!
هذا غير مختلف كثيرًا عن عبارة "ربنا ها يوديك النار" وغيرها من التعبيرات الكثيرة التي تنسب الشر والانتقام إلى الله مثل: "ربنا بيعمل فيَّ كده ليه ؟" التي قد تتسق مع بعض معطيات العهد القديم! بجهل شديد لإعلان العهد الجديد: أن الله نور لا ظلمة فيه البتة وأن الله محبة؛ وأنه لا يجرب أحدًا بالشرور؛ وأنه يحب الإنسان حتى الخاطئ ويطلب خلاصه ورجوعه.
ربما ذهب بعض المعلمين في كبوة من التاريخ للتعبير عن حالة الحقد الأسود الذي ملأ قلوبهم بالإصرار على التنكيل بالمعارضين والمختلفين معهم؛ بأن يؤسسوا على منهج الدينونة والعقاب في العهد القديم لتبرير قسوتهم الانتقامية من الآخرين؛ وربما كان مزج الإنجيل بالثقافة اليهودية والإسلامية مسببًا آخر لتغييب إعلان العهد الجديد عن عيون الكثيرين!
أن يكون كل الكتاب موحى به من الله ونافع للتعليم والتقويم؛ لا يلغي حقيقة أساسية؛ أن العهد القديم أُعطي لبشرية جالسة في الظلمة وظلال الموت؛ بينما أُعطي العهد الجديد لإنسان الطبيعة والخليقة الجديدة، وغلبة الخطية وقوة القيامة.
أن يصل الجهل والغباء ببعض المعلمين لإنكار تعريف العهد الجديد بفم المسيح نفسه له المجد عن الدينونة ويعودون بنا إلى تعريفات العهد القديم؛ بأن الدينونة هي توقيع العقوبة على مخالفي الشريعة! فالرب قد وضع تعريفًا جديدًا للدينونة بحصر اللفظ : "وهذه هي الدينونة أن النور (شخصه المبارك) قد جاء إلى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة" (يو ١٩/٣)
فإعلان العهد الجديد للصورة الحقيقية لله الصادرة عن من رأى الله؛ بشهادته عن نفسه؛ يرسخ لأساس مختلف عن القديم للدينونة تبعًا للأساس الجديد الذي صار بالعهد الجديد؛ الذي هو المسيح: النور الحقيقي الذي جاء إلى العالم؛ فمن يقبل النور ويثبت فيه فقد إنتقل به من الموت إلى الحياة؛ ومن يرفضه يبقى في واقع حاله؛ الموت والدينونة؛ فهذا هو رأينا وشرحنا للإنجيل وفهمنا لتعليم آباء الكنيسة الأولين؛ الذي جَهِله الذين تتلمذوا على معلمي لاهوت العصور الوسطى؛ دون لاهوت الآباء.
القديس إيريناوس يقول: "هؤلاء الذين تخلوا عن فعل الصالحات بإرتدادهم؛ كونهم في الواقع محرومين من كل خير يتعرضون لكل أنواع العقاب؛ فإن الله لا يعاقبهم بنفسه في الحال ولكن هذا العقاب يقع عليهم لأنهم محرومين من كل ما هو صالح؛ الأشياء الصالحة أبدية ومصدرها الله؛ لذلك فإن فقدانها أبدي ولا منتهي؛ كما أنه في حالة طوفان من الضوء؛ فإن أولئك الذين أعموا أنفسهم أو أعموا آخرين محرومين إلى الأبد من التمتع بالنور؛ ولكن ليس لأن النور قد وقعَّ عليهم عقوبة العمى؛ بل لأن العمى نفسه قد أصابهم بالضرر؛ كما نرى في (يو ٣ : ١٨-٢١) حينما أعلن الرب أن من يؤمن بي لا يدان؛ أي لا ينفصل عن الله لأنه بالإيمان به؛ قد صار مُتحدًا بالله؛ ومن الناحية الأخرى يقول من لا يؤمن هو في الدينونة لأنه لم يؤمن بإسم إبن الله الوحيد أي أنه منفصل عن الله من تلقاء نفسه ؛ لأن هذه هي الدينونة أن النور قد جاء إلى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من النور ؛ لأن كل من يفعل الشر يبغض النور ولا يأتي إلى النور لئلا توبخ أعماله فيه وأما من يفعل الحق فيقبل إلى النور لكي تظهر أعماله أنها بالله معمولة" (يو ٣ : ١٨- ٢١)
[ مترجم من :ضد الهرطقات كتاب ٥ فصل ٢٨ فقره ٢ ]