لا أُحِبُّ أن أُعمِّقَ جِراحَ التَّقسيمِ والانقسامِ في جسدِ المسيحِ الكنيسة؛ لكنَّني أعتقدُ أنَّ القادةَ الذين تسبَّبوا في هذه الأفكارِ التي صَنَعَتِ التَّقسيمَ من إبداعاتِهم: هم بشرٌ غيرُ معصومين مثلُنا، ولا مانعَ من مناقشةِ آرائِهم.
نَعرفُ جميعًا – الدّارسين – أنَّ جون كالفن هو الذي أسَّسَ لفكرةِ أنَّ وحيَ العهدِ القديمِ مُساوٍ لوحي العهدِ الجديد، بخلاف مارتن لوثر الذي أكَّدَ على أنَّه يقبلُ كلام موسى النبي في التوراة كمعلمٍ وليس كمُشرِّع. ونعلمُ أيضًا أنَّ جون داربي المُحترم شاركَ في ترجمةِ الملك جيمس، التي اعتُبِرَت مرجعيَّةً لما بعدها، على الرُّغم من أنَّ هذه الترجمة هي التي أسَّسَت لعبارة: "كلُّ الكتابِ موحًى به من الله" (2 تي 3: 16). بخلافِ النّص اليوناني، حيث إنَّ كلمة "جِرافِـي"(γραφὴ) التي تُرجمت "الكتاب" وردت بدون أداة تعريف، وهكذا ترجمتها
(American Standard Version, ASV)
Every scripture inspired of God is also profitable for teaching, for reproof, for correction, for instruction which is in righteousness. (2Timothy 3:16)
ويعوزُنا الوقتُ لمُراجعةِ مَنطقيَّةِ الترجمةِ في نُصوصٍ مثل (يو ٢: ٢٢): "فَلَمَّا قَامَ مِنَ الأَمْوَاتِ، تَذَكَّرَ تَلاَمِيذُهُ أَنَّهُ قَالَ هذَا، فَآمَنُوا بِالْكِتَابِ وَالْكَلَامِ الَّذِي قَالَهُ يَسُوعُ." فيما كان موضوع النص يدور حول الإيمان بحقيقة شخصية المسيح بعد قيامته! أم كنا بحاجةٍ لأن نُعيدَ على مسامعِ قادتِنا كلماتِ الرسول بطرس: "وَعِنْدَنَا الْكَلِمَةُ النَّبَوِيَّةُ، وَهِيَ أَثْبَتُ، الَّتِي تَفْعَلُونَ حَسَنًا إِنِ انْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا، كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ، إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ النَّهَارُ، وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ الصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ" (٢ بط ١: ١٩). فقد قارنَ بين وحيِ العهدِ القديمِ الذي هو: "تكلمَ أُناسُ الله القديسون مسوقين من الروح القدس" (كسراجٍ منير)، بينما وحيُ العهدِ الجديدِ قال عنه: "ينفجرُ النهار ويطلع كوكبُ الصبح".
كان الرُّسلُ يُبشِّرونَ اليهودَ بمرجعيَّةِ نبواتِ الأنبياء الذين يُؤمنونَ بهم، ولكنهم لما خرجوا إلى العالم الوثني، لم يطلبوا من أحدٍ أن يُؤمن بالكتاب ولا بالأنبياء، بل برهنوا على ربوبيةِ يسوع وقيامته بأعمالِ يسوع نفسه، التي قال عنها الرب: "إِنْ كُنْتُ لَسْتُ أَعْمَلُ أَعْمَالَ أَبِي فَلاَ تُؤْمِنُوا بِي." (يو ١٠: ٣٧).
وكانت الكنيسةُ المسيحيةُ حتى القرن الرابع، تتخذُ من العهدِ القديم كتابًا مرجعيًّا لها، حتى تمَّ تقنينُ العهدِ الجديد، فصرنا لا نقرأ في قُداساتِنا إلا مختاراتٍ من العهد الجديد، ونقرأ النبوات ذات الصلة مرةً واحدةً في السنة، في أسبوع الآلام. هكذا علَّمنا آباءُ الكنيسة أن نقرأ ونقبلَ من العهدِ القديم بعيونِ العهدِ الجديد، لأن الرب قال عن القديمِ وعن الناموس: قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ"... و"أمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ" (مت ٥: ٢١، ٢٧، ٣١، ٣٣، ٣٨، ٤٣)
حتى أنَّ الشعبَ القديمَ نفسه، الذي آمنَ بكتبِ التوراة، تأسَّسَ إيمانُه أوّلًا على الرب، وأنَّه أرسلَ موسى نبيًّا، كما هو مكتوب: "وَرَأَى إِسْرَائِيلُ الْفِعْلَ الْعَظِيمَ الَّذِي صَنَعَهُ الرَّبُّ بِالْمِصْرِيِّينَ، فَخَافَ الشَّعْبُ الرَّبَّ وَآمَنُوا بِالرَّبِّ وَبِعَبْدِهِ مُوسَى." (خروج ١٤: ٣١). فنحن لا نُهملُ منفعةَ العهدِ القديم، ولا أهميةَ نبوّاتِ الأنبياء، ولكننا لا نُؤسّسُ إيمانَنا إلا على شخصِ الرّب يسوع المسيح: "فَإِنَّهُ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَضَعَ أَسَاسًا آخَرَ غَيْرَ الَّذِي وُضِعَ، الَّذِي هُوَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ." (١ كورنثوس ٣: ١١). "وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ، لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ." (أعمال ٤: ١٢)
هذا هو التسليمُ الرسوليُّ الآبائيُّ الذي نَحفَظُهُ في كنيستِنا الأرثوذكسيّة الرسولية في روسيا. أمّا فكرةُ إلحاقِ القديم بالعهد الجديد، وفكرةُ الإيمان بالكتاب بديلًا عن الإيمان بالمسيح، فقد وُلِدَت في حقبةِ إلحاقِ الأعمال (الناموس) مع الإيمان (المسيح) للخلاص، التي ثار عليها مارتن لوثر. ومع هذا، لم يتنبَّه رفاقُهُ وتلاميذُهُ للفخِّ الذي نُصِبَ للكنيسة، في فكرة شرطية الأعمال (الناموس) مع الإيمان (المسيح) للخلاص، فراحوا يستبدلونَ المسيح بالكتاب المقدس!
هذا حوارُ محبة؛ الذين عرفوني عن قُرب، يعرفون أنني أؤمنُ بوحدانيةِ كنيسة المسيح في كلِّ العالم.
بنسلفانيا – أمريكا
١ أكتوبر ٢٠٢٥
لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "لاهوت العهد الجديد" اضغط على الرابط التالي:
https://anbamaximus.org/articles/NewTestamentTheology