رأي في الأحداث (٥٩) | الإلحاد والعصر:
Oct 02, 2025 8
980 79

رأي في الأحداث (٥٩) | الإلحاد والعصر:

نشأتُ في كنيسةٍ أرثوذكسيةٍ أكثر محافظةً، على أن الكنائس الأرثوذكسية عمومًا كنائس محافظة ومتمسّكةٌ "بالتُخم القديم"، وكنتُ قد اعتقدتُ أن الدراسة اللاهوتية التي انخرطتُ فيها ستُجيب على كل الأسئلة التي تدور برأسي؛ على أن ما حدث كان بخلاف ذلك، كثُرت الأسئلة وتضاعفت معها حيرتي.

أعارني أحد زملائي الأعزّاء في الدراسة اللاهوتية مسرحيةً لسارتر بعنوان: الذباب، لكي أقرأها. فلما قرأتُ مسرحية "الذباب" لسارتر، وجدته يصف حياتنا المسيحية الكنسية بأسلوبٍ مبدعٍ ومذهل، وكانت نتيجة قراءتي لسارتر أن ازدادت حيرتي وأسئلتي، خصوصًا أن زميلي أهداني مسرحيةً أخرى لسارتر وضع لها المترجم عنوان: "الشيطان والرحمن".

كاد رأسي أن ينفجر من الحيرة والإجابات غير المُقنِعة على أسئلتي، حتى أخبرني واحدٌ من القادة المحبوبين في الكنيسة عن كتاب "إله الإلحاد المعاصر" للمفكر اللبناني الراحل حاليًا "كوستا بندلي". فقرأتُ فيه لأول مرة فكرة: صورة الله، أي أن للبشر والأديان تصوّراتٍ مختلفة ومتباينة عن الله الواحد الكلي؛ وأن الصورة التي وصفها سارتر، والتي كانت تُشبه الصورة التي أعيشها عن الله، ليست هي الصورة التي قدّمها المسيح في الإنجيل عن الآب السماوي.

لم تُزعجني صدمة أنني أعيش صورة عن الله سخر منها المفكر الملحد، ولا أنني أعيش صورةً مغايرةً للإنجيل عن الله؛ بقدر ما ردّ نفسي وهدّأ روعي هذا الاكتشاف: أن الصورة التي نقدها سارتر كانت خليطًا من الموروثات القديمة، والعهد القديم، وتأثيراتٍ أخرى، ولكنها في المجموع لم تكن صورة الله في إنجيل المسيح.

كانت هذه الحادثة هي نقطة المفارق في شبابي، بمعرفة صورة الله كما قدّمها الإنجيل. فعكفتُ على قراءة الإنجيل بذهنٍ متجرّد، وكأنني لم أقرأه ولم أدرسه أربع سنواتٍ متخصصة، وهكذا أمكنني أن أرى الفارق بين صورة الله كما قدّمها المسيح يسوع في الأناجيل، وصورة الله كما قدّمها أنبياء العهد القديم، وصورة الله في الديانة الشعبية التي تعلّمتها بين أهلي وكنيستي المحلية المبكرة.

مرّت الأيام والسنين، وصرتُ شيخًا وراعيًا لكنيسة، وعليَّ أن أُواجه تيار الإلحاد الذي يعصف بالشباب، وقد صار الإنترنت والسماوات المفتوحة طريقًا سهلًا ومتاحًا للجميع، لانتقال المعرفة والمعلومة والاطلاع على ثقافات الآخرين من أقصى الأرض إلى أقصاها.

فهل يكون غلوُّ التمسّك بالموروثات الدينية التي لا تُجيب على احتياجات ولا أسئلة الشباب عاملًا لتثبيت الشباب في الإيمان؟ أم يكون إعمال العقل لفهم رسالات الإيمان، والإجابات المنطقية على أسئلة الشباب، هو الحلّ الحقيقي وربما الوحيد لنمو الإلحاد بهذه السرعة المخيفة؟!

 

بنسلفانيا – أمريكا

١٢ أغسطس ٢٠٢٥

 

لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "رأيٌ في الأحداث" اضغط على الرابط التالي:

https://anbamaximus.org/articles/Ra2yFeElahdath

Powered By GSTV