رأيٌ في الأحداث (٤٢) | التبشير والإلحاد!
Jul 17, 2025 9
980 79

رأيٌ في الأحداث (٤٢) | التبشير والإلحاد!

حَتّى ثمانينيّاتِ القرنِ الماضي، كان النّاسُ في شَرقِنا يَقرأون في الصُّحُفِ والكُتُب، ويُشاهِدون في التِّليفزيون والراديو ما يَسمَحُ به السُّلطان، وما يَتَوافَق مع تَوَجُّهات وسِياسة الدَّولة؛ حتّى إنّ الدُّوَل كانت تُخصِّصُ بَثًّا مُشوَّشًا تُرسِلُه على مَوجةِ إذاعاتِ الدُّوَلِ المُعادية المُوجّهة إليها، فلا يَتمكَّنُ المُواطِنُ العادي من الاستِماع إلى البَثِّ الإذاعي أو التِّليفزيوني للآخَرين غيرِ المرغوبِ فيهم، حتّى غَطَّت العالَمَ ثَورةُ الاتّصالاتِ من خلالِ الإنترنتِ والسَّماواتِ المفتوحة، فصارَتِ الكُرةُ الأرضيّةُ قريةً صغيرةً.
كان كِبارُ رِجالِ الدِّينِ وقادةُ الأديانِ شأنَهم شأنَ الحُكّامِ السُّلْطَوِيّين، قادرين على إصدارِ أحكامِ الإعدامِ والنَّفي الأدبي، وأحيانًا المادّي، على مُعارِضيهم، خصوصًا أنّ تَحالُفًا غيرَ مَكتوبٍ جرى تَوقيعُه منذ الأزمنةِ البعيدةِ بين رِجالِ الدِّينِ ورِجالِ السُّلطة. فكانت الحِرماناتُ الكنسيّةُ شأنَها شأنَ تَكفيرِ الخارجين، تَقومُ بدورٍ مُشابِهٍ للسُّجونِ والمُعتَقَلاتِ التي يَحوزُها السَّلاطينُ والحُكّام؛ حتّى جاءَتِ الثَّورةُ الفرنسيّةُ، ومِن بَعدِها عَصرُ ثَورةِ الاتّصالاتِ والسَّماواتِ المفتوحةِ ليُقلِبا المَوازين، ويُغيِّرا مُعادَلاتِ النَّقدِ، ومُواجَهَةَ الرأيِ بالرأي؛ الأمرُ الذي كَشَفَ الحقائقَ أمامَ الجميع، وجَعَلَ الذين لا يَقِفون على أرضيّةٍ صُلبةٍ في مَهبِّ الرّيحِ، والنَّقدِ، والسُّخريةِ أحيانًا.
المسيحيّةُ والكنيسةُ المسيحيّةُ، سَبَقَت عَصرَ الإنترنتِ والسَّماواتِ المفتوحةِ في تَلَقّي كُلِّ أشكالِ النَّقدِ من خارجِها ومِن داخِلِها؛ فقد حاصرَها الفلاسِفةُ والمُفكِّرونَ من الخارجِ بالنَّقدِ الفكريِّ اللاهوتيِّ والفلسفيِّ، ومِن داخِلِها بثَوَراتِ المُصلِحينَ، والنَّقدِ الذي بلا سَقفٍ في التَّحرُّرِ الفكريِّ، كما في المدرسةِ اللاهوتيّةِ الألمانيّةِ. الأمرُ الذي آلَ إلى خروجِ حركةِ الإصلاحِ والكَنائسِ البروتستانتيّةِ من عَباءةِ الكنيسةِ الكاثوليكيّةِ وتَمَدُّدِها الهائلِ خارجَها، والذي أَعقَبَه لاحقًا مجمعُ الفاتيكانِ الثاني الذي غيَّرَ وجَدَّد الكنيسةَ الكاثوليكيّةَ، وضَغَطَ الإصلاحُ على الكنيسةِ الأرثوذكسيّةِ الشّرقيّةِ أيضًا فخرجت منها حركةُ التّجديدِ اللاهوتيِّ الـ Neo-Patristic Theology.
الذين استراحوا على سياساتِ القَمعِ الفكريِّ والسَّيطرة، انزعجوا من عَصرِ الحُريّةِ والسَّماواتِ المفتوحةِ التي صارت تأتي بالطَّبعِ من البلادِ التي تُعطي مَساحاتٍ واسعةً للحريّةِ الفرديّةِ وحُريّةِ الرأي، خصوصًا أنّ الخاسرَ الأكبرَ بعد السَّلاطينِ القمعيّين بثَوَراتِ التحريرِ كان هو الدِّينُ على تَنوُّعِ المُعتقَدات؛ فراحوا يَصُبّون ثِمارَ فَشَلِهم وغَضَبِهم على مُواطِنيهم من أصحابِ الأقليّاتِ الدينيّة... ويا لِلخِزيِ والعار!
أستطيع أن أرى إلى جوارِ خِزي الذين عبّروا عن فشلِهم بإثارةِ الفِتَنِ والأحقاد، رجالَ دينٍ حُكماء دَخلوا مُعتركَ النَّقدِ للأديانِ بتجديدِ الخطابِ الديني، والإجابةِ على أسئلةِ الشَّباب.
حدث هذا الأسبوع أن أرسلت إليَّ سيدةٌ مصريةٌ مهاجرةٌ رسالةً تطلبُ مني إجابةَ ابنتِها الشابةِ على سؤالٍ يحيرُها، فرحبت بالطبع بالإجابةِ على سؤالِ الابنةِ: كيف يأمر الله موسى النبي في التوراة بأن يذبح الأطفال "فَالآنَ اقْتُلُوا كُلَّ ذَكَرٍ مِنَ الأَطْفَالِ. وَكُلَّ امْرَأَةٍ عَرَفَتْ رَجُلًا بِمُضَاجَعَةِ ذَكَرٍ اقْتُلُوهَا." (عد 31: 17)؟
الذين يُقيمون من أنفسِهم حُرّاسًا للدِّينِ وللإيمان، ويُقاومون تجديدَ الخطابِ الدينيِّ الإسلاميِّ وحركةَ التجديدِ اللاهوتيِّ الـ Neo-Patristic Theology: كيف يُجيبون على أسئلةِ الشَّبابِ الذين أصبحوا يَعيشون في عصرِ ثورةِ المعلوماتِ والاتصالات؟ وهل يُدرِكُ هؤلاءِ المُتشدِّدون الرَّافضون لتجديدِ الفكرِ الدينيِّ أن النتيجةَ الحتميّةَ لعدمِ الإجابةِ على أسئلةِ الشَّباب بإجابة عقلانيّةٍ عصريّةٍ مُقنِعة: هي مغادَرتهم للدِّينِ وتركُهم للإيمان، وأن السَّببَ الحقيقيَّ في خروجِ الشَّبابِ من الإيمانِ ليس هو التبشيرَ وحدَه، ولكن عجزَ الماضويّين من أصحابِ عمائمِ الدِّينِ عن تقديمِ صورةٍ إيجابيّةٍ مُبهجةٍ ومشرقةٍ للإيمان والدين.

بنسلفانيا – أمريكا
٢٠ مايو ٢٠٢٥

لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "رأيٌ في الأحداث" اضغط على الرابط التالي:
https://anbamaximus.org/articles/Ra2yFeElahdath

Powered By GSTV