في عمرِ الخامسةَ عشرةَ، تعلّمتُ أن أقرأَ الكتابَ المقدّسَ، وعرفتُ أنّ الكتابَ المقدّسَ بعهديهِ هو وحيٌ من عندِ الله: "كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ" (2 تي 3: 16). وهكذا عكفتُ منذ تلك السنِّ المُبكرةِ على قراءةِ الكتابِ المقدّسِ؛ بدايةً من سفرِ التكوينِ في التوراةِ، مرورًا بكتبِ التوراةِ، وكتبِ تاريخِ شعبِ إسرائيلَ المختار. ولأننا لم نكن نمتلكُ رفاهيةَ حريةِ التفكيرِ، خصوصًا فيما هو وحيٌ من الله وكتابه المقدّس، ولأنني كنتُ صغيرًا، فقد برمجتُ عقلي وفكري على أنَّ ما أقرأهُ في الكتابِ المقدّسِ هو الصوابُ، بما في ذلك غضبُ اللهِ على شرِّ الإنسانِ الذي أغرقَ البشريةَ كلَّها حسبَ روايةِ الطوفانِ في أيامِ نوح (تك 6: 7)، وكذلك الإبادةُ الجماعيةُ التي قام بها يشوعُ بنُ نون لأهلِ أريحا بأطفالهم وممتلكاتهم (يش 6: 21)!
ولأنَّ مناهجَ التعليمِ اللاهوتي التي نشأنا عليها وما زالت منتشرةً عند الكثيرين، كانت تقرأُ وتفهمُ العهدَ الجديدَ بناءً على خلفيةِ العهدِ القديمِ وبعيونهِ، فإنَّ الصورةَ القاتمةَ التي أحاطت بإنسانِ العهدِ القديمِ من قتلٍ وإهلاكٍ وإبادةٍ جماعيةٍ وإفناءٍ، كانت قد طفحت على العهدِ الجديدِ نفسه وجعلت من موتِ المسيحِ على الصليبِ امتدادًا لجبروتِ الانتقامِ الإلهيِّ الذي لم يشبعهُ إلا أن يقعَ ابنُهُ الحبيبُ تحتَ مقصلةِ الغضبِ الإلهيِّ حتى يكفَّ غضبُ الآبِ عن البشرِ الخاطئين المساكين!
لكنَّ الحقيقةَ التي اكتشفتُها لما كبرتُ وانخرطتُ في الدراسةِ اللاهوتيةِ هي أنَّ كلَّ ما تعلمتُهُ من الأفكارِ الماضويةِ التي أخضعت العهدَ الجديدَ للقديمِ، هي مؤامرةٌ يهوديةٌ مُحكمةٌ: اخترقت الفكرَ المسيحيَّ بأيدي لاهوتيين مدفوعي الأجرِ؛ للحفاظِ على اليهوديةِ إلى جانب المسيحيةِ، والتوراةِ إلى جانب الإنجيلِ، لأنَّ المسيحيةَ كانت قد أوشكت على أن تبتلعَ اليهوديةَ.
تعلّمتُ من الإنجيلِ أنَّ إنسانَ العهدِ القديمِ كان جالسًا في الظلمةِ وظلالِ الموتِ (لو 1: 79)، لأنَّ النورَ الحقيقيَّ لم يكن قد أُظهرَ بعد، وجاء النورُ الذي يُنيرُ كلَّ إنسانٍ (يو 1: 9) بتجسُّدِ الكلمةِ نورِ الآبِ، ابنِهِ الوحيدِ في المسيحِ يسوع.
وأنَّ المسيحَ يسوعَ لم يهدمِ الناموسَ، ولم ينقضِ الأنبياءَ، لكنه وضعَ أساسًا جديدًا وبناءً جديدًا، وبشّرَ بتعليمٍ وفكرٍ تجديديٍّ مُختلفٍ تمامًا، ومتناقضٍ في أحيانٍ كثيرةٍ مع قديمِ موسى النبيِّ والتوراةِ: "سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ: تُحِبُّ قَرِيبَكَ وَتُبْغِضُ عَدُوَّكَ (في التوراةِ تث 20)، أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ." (مت 5: 43–44). لأكتشفَ أنَّ الإنجيلَ هو ثورةُ تجديدٍ وتحريرٍ للإنسانِ، الذي كان جالسًا في الظلمةِ وظلالِ الموتِ (لو 1: 79)، وقد انتقلَ من الموتِ إلى الحياةِ (يو 5: 24)، ومن الظلمةِ إلى النورِ (أف 5: 8)، ومن الكراهيةِ ورفضِ الآخرِ إلى المحبةِ وقبولِ الآخرِ (1 يو 3: 14).
إنَّ سرَّ قدرةِ الإنجيلِ على تغييرِ الحياةِ وتحريرِ الإنسانِ، مؤسَّسٌ على أنَّ بشارةَ الإنجيلِ هي: أنَّ كلمةَ الآبِ ونورهُ الحقيقيَّ، الذي كان مُحتجبًا عن الإنسانِ الجالسِ في الظلمةِ وظلالِ الموتِ، قد أُظهرَ للإنسانِ وظهرَ في الجسدِ (1 تي 3: 16)، وصارَ مُعطًى وممنوحًا للإنسانِ لكي يُنيرَ كلَّ إنسانٍ في العالمِ (يو 1: 9)، "ثُمَّ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ أَيْضًا قَائِلًا: «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ»." (يو 8: 12).
إنَّ كلمةَ الآبِ ونورَهُ الحقيقيَّ الذي ظهرَ في الجسدِ وأنارَ البشريةَ – كلَّ إنسانٍ – بنورِ الحياةِ والفرحِ، وتغييرِ الطبيعةِ البشريةِ إلى الطبيعةِ الجديدةِ، هو مفتاحُ وسرُّ قوةِ بشارةِ الإنجيلِ التي أحدثتْ تغييرًا وتجديدًا جوهريًّا في حياةِ الإنسانِ وعلاقتهِ بأخيهِ الإنسانِ، وكذلك تحوّلًا في فهمِ صورةِ اللهِ: أنّه الآبُ السماويُّ المُحبُّ الذي تبنّى الإنسانَ من عبوديةِ الخطيةِ والموتِ؛ ليُصبحَ ابنًا للهِ، بدلًا من صورةِ الإبادةِ الجماعيةِ الانتقاميةِ للإنسانِ الخاطئِ بطوفانٍ أهلكَ جميعَ البشرِ.
فهل كانَ الإنجيلُ بذلك ثورةً تجديديةً لتغييرِ حياةِ البشرِ وتغييرِ الإنسانِ؟ أم كانَ الإنجيلُ وعهدُهُ الجديدُ امتدادًا للعهدِ القديمِ؟ اقرأوا الإنجيلَ بذهنٍ مُتحرّرٍ من الاختراقِ التهويديِّ لتكتشفوا الإجابةَ على هذا السؤالِ.
بنسلفانيا – أمريكا
١٢ يوليو ۲۰۲٥
لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "لاهوت العهد الجديد" اضغط على الرابط التالي: