المحاضرة الثالثة - نعمة العهد الجديد: النعمة غير المخلوقة
مقدمة:
عندما يعلن العهد الجديد أن الناموس بموسى أُعطي، أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا "لأنَّ النّاموسَ بموسَى أُعطيَ، أمّا النِّعمَةُ والحَقُّ فبيَسوعَ المَسيحِ صارا." (يو 1: 17)، فالإنجيل هنا يميز بطريقة واضحة ومحددة بين الناموس والنعمة، بالرغم من الخلط المتعمد أو غير المتعمد الذي حدث على مدى التاريخ بين الناموس والنعمة، بين القديم والجديد. فمن الواضح جليًا أن الإنجيل يميز بين الناموس والنعمة وعنصر التمييز في النص الذي نحن بصدده هو أن الإنجيل صارت به النعمة والحق، إذن بأقل وأبسط تحليل في نقد النصوص، فهذا النص معناه أن الناموس لم يصر به لا النعمة ولا الحق!!
لأن الكنيسة الأمريكية مرتبطة بالسياسة التي تأسست عليها الولايات المتحدة، فقد كان التأسيس على وثيقة التآخي بين اليهودية والمسيحية، ولذلك هناك حالة عنيفة من الإصرار على ربط القديم بالجديد، ومن ثم القسوس هنا ابتكروا تعبير اسمه "الحق الكتابي" بدلًا من تعبير "حق الإنجيل". هم يقولون الحق الكتابي، ولكن ماذا يعنى الحق الكتابي؟! من المفترض أنه لا يجد سوى حق كاتبي واحد بطول الكتاب المقدس وعرضه ألا وهو يسوع المسيح نفسه الذي قال عن نفسه: "أنا هو الحق"، "قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي." (يو 14: 6).
النعمة بين الشرق والغرب:
أ- النعمة في اللاهوت الغربي:
التعريف المستورد من الغرب للنعمة هو أن النعمة هي النعمة المجانية حسب "Interpreter Bible Dictionary" إن النعمة هي هبة مجانية تُعطى لمن لا يستحقها، وما هي هذه الهبة المجانية التي أُعطيت لمن لا يستحقها؟ هي غفران الخطايا. هذا الكلام الذي أتى إلينا من الغرب. تعريف النعمة بأنها غفران الخطايا يجعلها ما نسميه "النعمة المخلوقة"، وذلك لأن الخطايا مخلوقة هي حادثة حدثت زمنيًا، فقد خلقت الخطية بنفسي عندما ارتكبتها: فالخطايا أشياء مخلوقة؛ ومن ثم حينما نعرف النعمة أنها غفران الخطايا تكون هذه هي النعمة المخلوقة.
ب- النعمة في اللاهوت الشرقي:
إعلان العهد الجديد هو أن "النعمة صارت بيسوع المسيح"، "لأنَّ النّاموسَ بموسَى أُعطيَ، أمّا النِّعمَةُ والحَقُّ فبيَسوعَ المَسيحِ صارا." (يو 1: 17)، لذلك يرى الآباء الأرثوذكس أن هنالك تعريف آخر للنعمة، انطلاقًا من إعلان العهد الجديد وهو أن النعمة حسب هذا الإعلان هي نعمة غير مخلوقة وقد أسس القديس أثناسيوس الرسولي تعريف النعمة غير المخلوقة وأيضا غيره من الآباء. وقد قال القديس أثناسيوس في الفصل الثالث والرابع والخامس من كتاب "تجسد الكلمة: "إن الإنسان أُعطي شركة في قوة الكلمة، وإن هذه الشركة في قوة الكلمة هي النعمة ولكي يبقى في هذه النعمة، أعطيت له الوصية، فقد أعطى الله الوصية لتأمين العطية، فتبقى العطية التي هي النعمة المعطاة هي نعمة الشركة في الكلمة. وفي الفصل الخامس يؤكد على هذا المعنى ويقول لنا: "فإن الله لم يكتفِ بأنه يخلقنا من العدم، ولكنه وهبنا أيضًا بنعمة الكلمة إمكانية أن نعيش حسب الله، ولكن البشر حولوا وجوههم عن الأمور الأبدية وبمشورة الشيطان تحولوا إلى أعمال الفساد الطبيعي وصاروا هم أنفسهم السبب فيما حدث لهم من فساد الموت لأنهم كانوا، كما ذكرت سابقًا بالطبيعة فاسدين، لكن بنعمة اشتراكهم في الكلمة كان يمكنهم أن يفلتوا من الفساد الطبيعي لو أنهم بقوا صالحين." هذا التعبير في غاية الأهمية: "نعمة اشتراكهم في الكلمة".
لذلك يشرح القديس أثناسيوس معنى السقوط في كتابه "رسالة إلى الوثنيين" هو أن الإنسان الأول كان شاخصًا في الكلمة، والشخوص هنا يعني اتجاه قلبه وكيانه، ولما كان شاخصًا في الكلمة كان يحيا به، فالسقوط هو أنه تحول إلى التأمل والشخوص في الماديات بدلًا من الشخوص في الكلمة وهكذا فقد المصدر الذي يمده بالحياة، بدأ يتأمل الماديات وهكذا دخل إليه الفساد فانفصل عن الحياة والنور ودخل إليه الفساد لأنه انهمك في الماديات، بمعنى أنه فقد الشركة في الكلمة "لأنَّهُ حَيثُ يكونُ كنزُكَ هناكَ يكونُ قَلبُكَ أيضًا." (مت 6: 21). "وإنْ كانتْ عَينُكَ شِرّيرَةً فجَسَدُكَ كُلُّهُ يكونُ مُظلِمًا، فإنْ كانَ النّورُ الّذي فيكَ ظَلامًا فالظَّلامُ كمْ يكونُ!" (مت 6: 23).
ولكي نعرف الأساس الإنجيلي لهذا التعريف، فقد أورده القديس أثناسيوس في رسائله إلى القديس سيرابيون عن الروح القدس، مستشهدًا بالنص الذي خاطب به الرب يسوع اليهود قائلا لهم: "أليس مَكتوبًا في ناموسِكُمْ: أنا قُلتُ إنَّكُمْ آلِهَةٌ؟ إنْ قالَ آلِهَةٌ لأولئكَ الّذينَ صارَتْ إليهِمْ كلِمَةُ اللهِ، ولا يُمكِنُ أنْ يُنقَضَ المَكتوبُ" (يو 10: 34 - 35). "أنا قُلتُ: إنَّكُمْ آلِهَةٌ وبَنو العَليِّ كُلُّكُمْ." (مز 82: 6). الجدير بالذكر أن بالنص اليوناني عبارة صارت إليهم كلمة الله تم استخدام "أو لوجوس" وليس فقط "لوغوس" مستخدمًا أداة تعريف المذكر، فالمعنى المقصود هنا هو الابن الكلمة وليس الكلمة الإلهية المنطوقة!! وتكون الترجمة الصحيحة للعبارة هي: "صار إليهم كلمة الله" أي أن الحقيقة التي يعلنها هذا النص أن أولئك الذين صار إليهم كلمة الله تعنى صاروا شركاء في الكلمة، وبالتالي أنهم صاروا آلهة بنعمة اشتراكهم في الكلمة!
وهذا هو تعريف النعمة عند الآباء: أن الإنسان صار شريكًا، صاروا شركاء الطبيعة الإلهية، صاروا شركاء في الكلمة (فُقدت بعد السقوط). فإذًا نعمة العهد الجديد ليست هي غفران الخطايا، ولكن نعمة العهد الجديد هي أن الإنسان صار شريكًا في الكلمة؛ ومن ثم فشركته في الكلمة كانت هي سبب الحياة والنور الذي كان شاخص فيهما.
بناء على نص إنجيل يوحنا "وأمّا كُلُّ الّذينَ قَبِلوهُ فأعطاهُمْ سُلطانًا أنْ يَصيروا أولادَ اللهِ، أيِ المؤمِنونَ باسمِهِ." (يو 1: 12). فعندما أقبل الابن الكلمة، أصير شريكًا في الكلمة وأصير ابنًا لله. ولكن المفاجأة ما أعلنه الرسول بولس و الذى سماه "سر الإنجيل". "ولأجلي، لكَيْ يُعطَى لي كلامٌ عِندَ افتِتاحِ فمي، لأُعلِمَ جِهارًا بسِرِّ الإنجيلِ،" (أف 6: 19). ففي رسالة الرسول بولس إلى تيموثاوس الثانية في الإصحاح الأول، يقول: "الّذي خَلَّصَنا ودَعانا دَعوَةً مُقَدَّسَةً، لا بمُقتَضَى أعمالِنا، بل بمُقتَضَى القَصدِ والنِّعمَةِ الّتي أُعطيَتْ لنا في المَسيحِ يَسوعَ قَبلَ الأزمِنَةِ الأزَليَّةِ، وإنَّما أُظهِرَتِ الآنَ بظُهورِ مُخَلِّصِنا يَسوعَ المَسيحِ، الّذي أبطَلَ الموتَ وأنارَ الحياةَ والخُلودَ بواسِطَةِ الإنجيلِ." (2تي 1: 9 - 10). وفي الترجمة اليسوعية: "الَّذي خَلَّصَنا ودَعانا دَعوَةً مُقَدَّسة، لا بِالنَّظَرِ إِلى أَعمالِنا، بل وَفْقًا لِسابِقِ تَدْبيرِه والنِّعمَةِ الَّتي وُهِبَت لَنا في المَسيحِ يسوعَ مُنْذُ الأَزَل، وكُشِفَ عنها الآنَ بِظهورِ مُخَلِّصِنا يسوعَ المسيحِ الَّذي قَضى على المَوت وجَعَلَ الحَياةَ والخُلودَ مُشرِقَينِ بِالبِشارة" (رسالة بولس الرسول الثانية إلى تيموثاوس 1: 9-10 ت.ك.ع). هذا النص يعلن أن النعمة اللي أُعطيت لي ولك في المسيح يسوع أُعطيت لي ولك في المسيح قبل الأزمنة الأزلية، و هذا هو سر الإنجيل!!
كيف نفهم أن اشتراكنا في النعمة قبل الأزمنة الأزلية؟ وبطريقة محددة نستطيع أن نقول أن الرسول بولس عندما أعلن سر الإنجيل وهو يسوع المسيح نفسه قد أعلن أنه أي يسوع المسيح: "الّذي هو صورَةُ اللهِ غَيرِ المَنظورِ، بكرُ كُلِّ خَليقَةٍ." (كو 1: 15). والسؤال هنا كيف يكون المسيح يسوع هو بكر كل خليقة؟ كيف يكون مخلوقًا وهو الأبن الكلمة المولود من الآب؟ وبمنتهى البساطة، نعلم جيدًا أن إنسانية المسيح يسوع مخلوقة من الأرض ولم تنزل من السماء، فهي مخلوقة من الأرض لأنها مأخوذة من العذراء مريم، فهي مخلوقة مأخوذة من جسد مخلوق من الأرض، ولو لم تكن كذلك لما استطاعت هذه الإنسانية أن تمثل إنسانيتنا، فنحن نتصور أن إنسانية المسيح يسوع خُلقت في الزمان لما ولد المسيح من العذراء، لكن سر الإنجيل كما أعلنه الرسول بولس "الّذي هو صورَةُ اللهِ غَيرِ المَنظورِ، بكرُ كُلِّ خَليقَةٍ." (كو 1: 15)، يخبرنا أن إنسانية يسوع المسيح هي "بكر كل خليقة" أي قبل أن يخلق آدم الإنسان الأول!! وإذا دققنا النظر في قصة الخلق نجد ما يلي: "وقالَ اللهُ: «نَعمَلُ الإنسانَ علَى صورَتِنا كشَبَهِنا، فيَتَسَلَّطونَ علَى سمَكِ البحرِ وعلَى طَيرِ السماءِ وعلَى البَهائمِ، وعلَى كُلِّ الأرضِ، وعلَى جميعِ الدَّبّاباتِ الّتي تدِبُّ علَى الأرضِ». فخَلَقَ اللهُ الإنسانَ علَى صورَتِهِ. علَى صورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وأُنثَى خَلَقَهُمْ. " (تك 1: 26 - 27). إذن الإنسان ليس هو صورة الله لكنه على صورة الله.
فمن هو إذن صورة الله؟ قطعًا الإجابة المعروفة أن صورة الله هو الابن، وهذا صحيح، لكن صورة الله التي خلق عليه الإنسان هو الابن المتجسد، بمعنى إن يسوع المسيح كان هو بكر كل خليقة في قصد الله وتدبيره، وبمعنى إن آدم هو الذي خُلق على صورة يسوع المسيح وليس يسوع المسيح هو من خُلق على صورة آدم، بمعنى أن يسوع المسيح هو بداءة خليقة الله.
فهذا معناه أن تدبير التجسد كان في قصد الله قبل إنشاء العالم، وليس أن تدبير التجسد هو اضطرار من الآب أن يرسل ابنه يتجسد حتى يكفر عن خطية الإنسان، فقد أجمع الآباء الشرقيين أنه حتى بدون سقوط البشرية كان التجسد حتميًا! ولذلك فتدبير التجسد هو نعمة اشتراك الإنسان في الكلمة وقد كان موجودًا في قصد الله من قبل تأسيس العالم، أي أن يسوع المسيح هو من سُر الله أن يحل فيه كل ملء اللاهوت جسديًا، كل ذلك كان في قصد الله. “فإنَّهُ فيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلءِ اللّاهوتِ جَسَديًّا." (كو 2: 9). بالقطع هذا ينطبق على الله الذي لا يحده الزمن، ليس عنده ماضي وحاضر ومستقبل عكس بنى الإنسان، الله موجود في حاضر دائم الماضي والحاضر والمستقبل حاضرين أمامه. عندما نقول قصد الله بالنسبة لي أنا قبل تأسيس العالم، نحن نعى تمامًا أن الله ليس عنده "قبل وبعد" ولا "كان وأصبح" ولا "كان وصار"، الله لا توجد عنده أزمنة. فعندما يقال قصد الله، فقصد تساوي فعل، قصد تساوي كان، تساوي يكون، فمعنى أن الابن المتجسد يسوع المسيح كان في قصده يعني ذلك أنه كان موجودًا، لأن الوجود هو أن نوجد في قصده: "الّذي هو صورَةُ اللهِ غَيرِ المَنظورِ، بكرُ كُلِّ خَليقَةٍ." (كو 1: 15).
وعلى ذلك فالنسخة الإنسانية التي اسمها يسوع المسيح كانت هي النسخة الإنسانية الأولى فهو البكر بداءة خليقة الله، صورة الله غير المنظور التي عليها قد خلق آدم، فهو خُلق على هذه الصورة، خُلق شريكًا في الكلمة بناءً على صورة الله التي أُظهرت في المسيح يسوع.
ونزيد على ما سبق ونقول إنه عندما يعلن يسوع المسيح (ابن الإنسان – الابن المتجسد) ويقول حسب إنجيل يوحنا: "أَيُّهَا الآبُ أُرِيدُ أَنَّ هؤُلاَءِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا، لِيَنْظُرُوا مَجْدِي الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ." (يو 17: 24)، أنه محبوب قبل تأسيس العالم فهو يعلن بكل وضوح أنه موجود من قبل تأسيس العالم في قصد الله، فالكلام هنا على يسوع، بداءة خليقة الله، ويسوع هو صورة الله غير المنظور في قصد الله والآب أحبه: "لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم".
ولم يقف الإعلان عند هذا الحد، بل امتد ليشملنا نحن أيضًا: "وأحببتهم كما أحببتني". "أنا فيهِمْ وأنتَ فيَّ ليكونوا مُكَمَّلينَ إلَى واحِدٍ، وليَعلَمَ العالَمُ أنَّكَ أرسَلتَني، وأحبَبتَهُمْ كما أحبَبتَني." (يو 17: 23). وهذا يعني أنه اختارني فيه قبل إنشاء العالم بحسب القصد والنعمة، وبهذا يعلن يسوع المسيح: "أحببتني قبل إنشاء العالم"، ويعلن أيضا: "أحببتهم كما أحببتني". وقد اختارنا فيه. "أَيُّهَا الآبُ أُرِيدُ أَنَّ هؤُلاَءِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا، لِيَنْظُرُوا مَجْدِي الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ." (يو 17: 24). "أنا فيهِمْ وأنتَ فيَّ ليكونوا مُكَمَّلينَ إلَى واحِدٍ، وليَعلَمَ العالَمُ أنَّكَ أرسَلتَني، وأحبَبتَهُمْ كما أحبَبتَني." (يو 17: 23).
خلاصة القول إن سر الإنجيل هو أن يسوع هو صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة من قبل إنشاء العالم. "الّذي هو صورَةُ اللهِ غَيرِ المَنظورِ، بكرُ كُلِّ خَليقَةٍ." (كو 1: 15)، وقد نلنا نحن نصيبًا، معينين فيه أيضًا، نلنا نصيبًا معينًا سابقًا حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته لنكون لمدح مجده نحن الذين قد سبق رجاؤنا في المسيح الذي فيه أيضا - أي في قصده - الذي فيه أيضًا أنتم إذ سمعتم كلمة الحق إنجيل خلاصكم: "الّذي فيهِ أيضًا نِلنا نَصيبًا، مُعَيَّنينَ سابِقًا حَسَبَ قَصدِ الّذي يَعمَلُ كُلَّ شَيءٍ حَسَبَ رأيِ مَشيئَتِهِ، لنَكونَ لمَدحِ مَجدِهِ، نَحنُ الّذينَ قد سبَقَ رَجاؤُنا في المَسيحِ. الّذي فيهِ أيضًا أنتُمْ، إذ سمِعتُمْ كلِمَةَ الحَقِّ، إنجيلَ خَلاصِكُمُ، الّذي فيهِ أيضًا إذ آمَنتُمْ خُتِمتُمْ بروحِ المَوْعِدِ القُدّوسِ، " (أف 1: 11 - 13)، وأيضًا نفس الإعلان في الرسالة إلى أهل رومية: "لأنَّ الّذينَ سبَقَ فعَرَفَهُمْ سبَقَ فعَيَّنَهُمْ ليكونوا مُشابِهينَ صورَةَ ابنِهِ، ليكونَ هو بكرًا بَينَ إخوَةٍ كثيرينَ." (رو 8: 29).
نود أن نشير هنا إلى نقطة فارقة قد أعلنها أيضا الرسول بولس في رسالته الثانية إلى تيموثاوس: "الّذي خَلَّصَنا ودَعانا دَعوَةً مُقَدَّسَةً، لا بمُقتَضَى أعمالِنا، بل بمُقتَضَى القَصدِ والنِّعمَةِ الّتي أُعطيَتْ لنا في المَسيحِ يَسوعَ قَبلَ الأزمِنَةِ الأزَليَّةِ" (2تي 1: 9). برجاء ملاحظة الأفعال: خلصنا ودعانا بمقتضى القصد والنعمة، فقد صرت أنا شريكًا في الابن الذي هو النعمة، نعمة الاشتراك في الابن، "النعمة التي أُعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية." دون أن يكون ذلك بمقتضى أعمال قد عملتها لكي أحصل على هذه الشركة المجيدة! وقد استُعلنت هذه الشركة وأُظهرت الآن بظهور مخلصنا يسوع المسيح، فظهوره هو الذي أُظهره شخصيًا وأُظهر معه اشتراكي في النعمة وفي القصد الذي كان لي في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية.
ما أعظم القصد والعطية! وما أعظم هذه النعمة غير المخلوقة! وهي أن نشترك في ابن الله القدوس وتكون هذه النعمة غير المخلوقة في قصد الله من نحونا قبل تأسيس العالم وأنه كما أن صورة الله غير المنظور بكر كل خليقة كان معروفًا قدام الآب، وكان محبوبًا في قصد الآب "أحببتني قبل إنشاء العالم"، فأنا أيضًا دُعيت في قصد الآب لأن أكون مشابهًا لصورة ابنه، ودُعيت في قصد الآب لكي أنال نصيبًا، معينين سابقًا حسب قصد الذي يعمل كل شيء، ودُعيت لكي يكون هو بكرًا بين إخوة كثيرين.
كيف نشترك في النعمة غير المخلوقة؟
لابد لنا أن نعيد قراءة الإنجيل بناءً على هذا الحق وهذا الإعلان ولأن الإنجيل ليس موضوع إيمان: إن آمنت بما فعله الله من أجلك في المسيح يسوع فقد خلصت! ليس ذلك هو سر الإنجيل، فبشارة الإنجيل المؤسسة على فكرة الإيمان فقط ليست إلا صياغة تبناها وأسسها القسوس الأمريكان وصدروها للشرق! سر الإنجيل وحق الإنجيل هو تدبير النعمة والاشتراك في الكلمة قبل تأسيس العالم، وبشارة الإنجيل تعلن لي أني مدعو من قبل تأسيس العالم لكي أكون شريكًا في الكلمة.
هناك أيضا أتجاه مغلوط وهو أن الكلام عن التجديد والنعمة لا يمت للأرثوذكسية بصلة، بل ينتمي للاتجاه البروتستانتي وأما التعليم الأرثوذكسي فهو فقط يؤسس على الجهاد، ويستخدم من يتبنون هذا التعليم قصة للأنبا مقار من "التراث الرهباني غير الموثق" أنه ظل يجاهد ضد إبليس حتى بعد خروج روحه من الجسد رافضًا أن يقبل أي تطويب من الشيطان وإلى أن وصل إلى داخل السماوات، وقتها طلب من إبليس أن يطوبه لأنه الآن فقط قد خلص بنعمة المسيح!! للأسف الشديد هذا فكر البوذية الخلاص بالموت والدخول في حالة النرڤانا بعد الموت، ويشبه أيضًا الغنوصية، وليس فكر ومنهج المسيحية التي تدعو أن اشتراكي في الكلمة هو الذي يبطل الخطية الساكنة في، وإني محبوب فيه - أي في الكلمة - من قبل تأسيس العالم. "أحببتهم كما أحببتني".
عدم الوعي بهذا السر العظيم يضع معظم المؤمنين بالمسيحية في موقف المنهزم من الخطية، بل والغالبية يرون بطريقة واعية أو غير واعية أن هذه الوعود الإنجيلية مجرد كلام نظري يكاد تطبيقه على أرض الواقع أن يكون مستحيلا!! فالغالبية يحبون المسيح ويريدون أن يحيوا الإنجيل وبالأسف الشديد لا يعرفون أي طريق يسلكون بعد أن استنفذوا كل الطرق والاتجاهات التي تسلموها من رعاتهم وخدامهم. فلا بد أن تكون البداية من هذه النقطة وهي أن الاشتراك في الكلمة هو الذي يبطل الخطية والموت الساكن فيَّ، ذلك لكي نكون على أول الطريق الصحيح.
علينا أن نكون أبناء لله حتى نشترك في كلمته "فإنْ كُنّا أولادًا فإنَّنا ورَثَةٌ أيضًا، ورَثَةُ اللهِ ووارِثونَ مع المَسيحِ. إنْ كُنّا نَتألَّمُ معهُ لكَيْ نَتَمَجَّدَ أيضًا معهُ." (رو 8: 17). فإذا لم يكن للآب ابنًا لما أمكن أن أصير أنا ابنًا، لأني لا أصير أبن بأن يُخلع علي شرف التبني، فالتبني معناه أنني صرت ابنًا بسبب اشتراكي في الابن، وذلك لأنه ليس لدى الآب السماوي سوى ابن وحيد، ونحن نصير أبناء بنعمة اشتراكنا في الابن. فلأني أصير في الابن والابن فيَّ، بنعمة اشتراكي في الابن، فأنا أصير ابنًا. وإذا لم يكن لله روحه القدوس لما أمكن أن تحدث هذه العلاقة التي هي علاقة البنوة، واشترك في الابن.
وعن كيفية صيرورتنا أبناء لله، يعلمنا القديس كيرلس الأورشليمي في العظة الثانية: "نحن نخلص أولًا بواسطة الكلمة. لأن الروح القدس يخترق روح الإنسان، يخترق روح الإنسان من خلال الكلمة. "الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة". "الرّوحُ هو الّذي يُحيي. أمّا الجَسَدُ فلا يُفيدُ شَيئًا. الكلامُ الّذي أُكلِّمُكُمْ بهِ هو روحٌ وحياةٌ،" (يو 6: 63). فكلمة الله كلمة حياة: "فإنّي الحَقَّ أقولُ لكُمْ: إنَّ أنبياءَ وأبرارًا كثيرينَ اشتَهَوْا أنْ يَرَوْا ما أنتُمْ ترَوْنَ ولَمْ يَرَوْا، وأنْ يَسمَعوا ما أنتُمْ تسمَعونَ ولَمْ يَسمَعوا." (مت 13: 17). الكلمة الخارجة منه تحمل الروح القدس، والروح القدس يحملها إليّ. فقبولي للكلمة يعطيني الفرصة أن الروح القدس يخترق روحي أولًا، ومن هنا فروحي تقبل الروح القدس بالكلمة، فيوحدني الروح القدس بالابن، فيصير لي شركة فيه، فالابن هو الذي يأخذني إلى الآب. وكيف أذهب للابن وأتحد به؟ الروح القدس هو الذي يوحدني بالابن: فكل شيء هو من الآب بالابن في الروح القدس، وبالابن يصير لي قدومًا إلى الآب. فإذا لم يكن هنالك الروح القدس، فكيف يكون لي نعمة الاشتراك في الكلمة؟ وإذا لم يكن لي نعمة الاشتراك في الكلمة - الابن، الابن الكلمة - فكيف أصير أنا ابنًا لله؟ وإذا لم أصير ابنًا لله، فما لم يتحد بالكلمة لم يخلص، وقد نحت القديس إغريغوريوس النزينزي هذا المفهوم في رده على أبوليناريوس.
فمن هنا اتضح أن تعريف الخلاص هو الاتحاد بالمسيح، هو الاتحاد بالكلمة، الاتحاد بالابن. فرسالة الإنجيل هي أن اتحادي بالابن يجعلني ابنًا، وهذا هو ما يخلصني وما يغيرني وما يجددني. وهل معنى ذلك أنه لا وجود للإيمان؟ بالقطع لا فالإيمان هو اليد اللي الممدودة، الجسر الممتد بيني وبين الكلمة، يمده الروح القدس حتى يعبر عليه إليَّ. وما الجدوى من جسر الإيمان؟ حتى يكون هناك حرية الإرادة في الاختيار القبول أو الرفض...