المسيح أعلنها صراحةً أنه ما جاء لكي يلغي اليهودية (ناموس موسى)، بل ليقدم للإنسان كمالًا ورُقيًا جديدًا: "لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ." (مت 5: 17)، وقد رفع المسيح شعار التوراة بعينه "... اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ. الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ." (مر 12: 29)؛ ليؤكد على واحدية الإله.
إلا أن إعلان المسيح عن واحدية الإله جاء مُتسعًا في الفهم ومُغايرًا في نتائج علاقة الإنسان بالإله؛ وهكذا صارت المسيحية نسخة جديدة مُميزة ومُغايرة لما كان معروفًا للإنسان اليهودي، دون إلغاء أو إنكار القديم.
انتشرت المسيحية بين اليهود، وكذلك بين الوثنيين في كل العالم المعروف آنذاك؛ بواسطة البشارة بالكلمة ومُعجزات الشفاء، دون أن يُجْبِّر المسيح أو تلاميذه أحدًا على الإيمان به؛ إلا أن هذا الانتشار شكّل تهديدًا وجوديًا للكيان اليهودي في أورشليم، كما شكّل نفس التهديد للإمبراطورية الوثنية في روما، ومن ثم واجه المسيحيون الاضطهاد والرفض والتعذيب من اليهود ومن الوثنيين على السواء، ومع ذلك انتشرت المسيحية في كل مكان.
لماذا انتشرت المسيحية على حساب اليهودية والعبادات الوثنية بهذا الشكل الواسع رغم كل أشكال الاضطهاد؟ لأن المسيحية قدمت ببشارة الكلمة وحدها: نمطًا جديدًا متميزًا في علاقة الإنسان بالله وعلاقة الإنسان بالإنسان؛ ولم يكن هذا متاحًا لا في اليهودية ولا بين الوثنيين.
ما مشكلة المسيحيين في أن يظهر المسيح اليهودي، وأن يُتوج ملكًا لإسرائيل، وأن يأخذ فرصته كما أخذ المسيحيون الأوائل فرصتهم في التبشير بالمسيحية؟
الشريعة اليهودية كانت مُتاحةٌ وما تزال موجودة لدى المسيحيين في الكتاب المُقدس كجزء من العهد القديم، بينما يُشكل الإنجيل بالنسبة لهم الكمال والتكميل في علاقتهم بالآخرين، وفي نضج فهمهم وعلاقتهم بالله. فإذا توفرت الحرية، وظل التبشير بالإيمان وبالحكمة والموعظة الحسنة؛ فلا يستطيع أحد أن يفرض رأيه أو إيمانه على الآخرين، ومن ثم تتعدد الأديان والمُعتقدات، وتتعايش وتتباين كما تشاء. لكن المشكلة تبدأ من محاولة فرض عقيدة أو دين على الآخرين، أو يُشوه إيمان الآخر لحساب المُعتقد المختلف ! أو يُستخدم العنف والإرهاب لنشر مُعتقد على حساب مُعتقدات الآخرين !
فإذا قبل البشر بلغة التحضر واحترام حرية التباين والاختلاف والتعدد في الأديان والمعتقدات؛ فلا ضيرٌ من تعدد المُسحاء والأنبياء والأديان؛ لكن التاريخ يشهد بخلاف ذلك في كثير من الأحيان؛ إذ يلجأ الأنبياء والمُسحاء واتباعهم إلى الاستيلاء على السلطة وقوة السلاح، ومن ثم يلجؤون إلى القهر والإرهاب في نشر مُعتقداتهم التي من المفروض أن تؤدي بهم إلى غاية الدين ! من المُبكي حتى الصراخ: أن يعيد التاريخ نفسه، وأن تكون غاية الدين هي سلب أرض الآخرين وسبي نسائهم وأطفالهم من أجل إقامة مملكة الإله الواحد الموعودة منه.
حسبما أعلن الحاخامات المعاصرين على وسائل الميديا المتعددة؛ فإن المسيح (الجديد) ملك إسرائيل سيُقيم أحكام التوراة، ويبني الهيكل الثالث (الذي بُني فعلًا)، ويحقق وعد مملكة إسرائيل الكُبرى من النيل إلى الفرات.
وهذا معناه بمنتهى البساطة، وبعيدًا عن كل أشكال السذاجة: أما أنه سيزحف إلينا في مصر بحدود إِسْرائيلِهِ الكبرى حتى يصل إلى النيل، أو أن نأخذ نحن النيل ونذهب به إليه ! فهل يكون السعي إلى النيل تحقيقًا لحلم إسرائيل الكبرى؛ أم تحقيقًا لنبوءات النهاية ؟!
أظن أن الحذر والاستعداد لكل الاحتمالات واجب.
بنسلفانيا – أمريكا
10 أبريل 2025
لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "رأيٌ في الأحداث" اضغط على الرابط التالي:
https://anbamaximus.org/articles/Ra2yFeElahdath