يتبيَّن لنا من رسالة القديس يعقوب أن مسحة المرضى بالزيت المقدس للشفاء كانت إحدى ممارسات الكنيسة المسيحية منذ بدايتها، إذ يقول الرسول: "أَمَرِيضٌ أَحَدٌ بَيْنَكُمْ؟ فَلْيَدْعُ شُيُوخَ الْكَنِيسَةِ، فَيُصَلُّوا عَلَيْهِ وَيَدْهَنُوهُ بِزَيْتٍ بِاسْمِ الرَّبِّ." (يع ٥: ١٤). فما هي جذور هذا التقليد المسيحي القديم، وكيف تأسس؟ عندما قام الرب يسوع من الأموات ودخل إلى تلاميذه والأبوابُ مغلقة مساء يوم القيامة، قال لهم: "... نَفَخَ وَقَالَ لَهُمْ: "اِقْبَلُوا الرُّوحَ الْقُدُسَ. مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَت"» (يو ٢٠: ٢٢-٢٣)، وقد علّق القديس كيرلس الإسكندري -في شرحه لإنجيل القديس يوحنا- على هذا النص، مُشيرًا إلى أن الكلمة اليونانية التي استخدمها الرب تعني "استلموا" الروح القدس. ومن هنا ظهر في التقليد المسيحي الربط بين نفخة القديسين وتسليم الروح القدس، على المثال الذي رسمه الرب في مساء يوم القيامة. ويقول القديس كيرلس الأورشليمي في كتابه عن الأسرار: "إن أنفاس القديسين نارٌ تَحرِق الشياطين".
ولكن، مَن الذي ربط بين نفخة الروح القدس والمسح بالزيت؟ من خلال قراءتنا لإنجيل القديس مرقس: "وَأَخْرَجُوا شَيَاطِينَ كَثِيرَةً، وَدَهَنُوا بِزَيْتٍ مَرْضَى كَثِيرِينَ فَشَفَوْهُمْ." (مر 6: 13)؛ نتبيّن أن الذي أسس سرّ مسحة المرضى بالزيت للشفاء هو الرب يسوع المسيح نفسه. فقد ربط التلاميذ والكنيسة من بعدهم بين نفخ الرب الروح القدس في التلاميذ وبين مسحهم للمرضى بالزيت وشفائهم، ليغدو هذا التقليد مستقرًّا في الكنيسة: أن يُصلَّى على الزيت ويُنفخ فيه نفحة الروح القدس، فيصير الزيت ناقلًا لقوة الروح القدس للشفاء، وهذه المهمة كان يقوم بها أصحاب مواهب الشفاء والمتقدمون في النعمة من الكهنة لكي يستخدم بقية الكهنة والخدام هذا الزيت الممسوح بالروح القدس في خدمة شفاء المرضى.
ولم تغفل الكنيسة عن الربط بين نفخة الروح القدس وكلام الرب "مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ"؛ لتجعل هناك ارتباطًا شرطيًّا بين التوبة والاعتراف بالخطايا، قبل نوال مسحة الزيت المقدس للشفاء: "أَمَرِيضٌ أَحَدٌ بَيْنَكُمْ؟ فَلْيَدْعُ شُيُوخَ الْكَنِيسَةِ فَيُصَلُّوا عَلَيْهِ وَيَدْهَنُوهُ بِزَيْتٍ بِاسْمِ الرَّبِّ، وَصَلاَةُ الإِيمَانِ تَشْفِي الْمَرِيضَ، وَالرَّبُّ يُقِيمُهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَعَلَ خَطِيَّةً تُغْفَرُ لَهُ." (يع ٥: ١٤-١٥).
إن غياب مواهب الروح القدس للشفاء في الكنيسة، وعدم اختبار المؤمنين لشفاء جسدي حقيقي بعد نوال سر مسحة المرضى بالتوبة، يُثير علامات استفهام حقيقية حول مصداقية هذه الكنيسة وقدرتها على الشهادة لربوبية المسيح، وعلى ممارسة الإنجيل عمليًّا وبصدق. وأعتقد أن هذا أحد الأمور الجوهرية التي تستدعي المراجعة والاستعادة كما يليق بإنجيل يسوع المسيح.
فلتكن محبة الله الآب، ونعمة الابن الوحيد يسوع المسيح ربّنا، وشركة الروح القدس مع جميعنا، آمين.
بنسلفانيا – أمريكا
٧ نوفمبر ٢٠٢٥
لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "لاهوت العهد الجديد" اضغط على الرابط التالي:
https://anbamaximus.org/articles/NewTestamentTheology