كورس في البدء كان الكلمة | المحاضرة السابعة عشر | من رآني فقد رأى الآب
Nov 05, 2025 3
980 79

كورس في البدء كان الكلمة | المحاضرة السابعة عشر | من رآني فقد رأى الآب

حلم البشرية برؤية الله / الله المستعلن في الابن المتجسد
التلاميذ - ومثلنا نحن جميعًا، وكل البشر - عندهم حلم رؤية الله. هذا الحلم كان أيضًا عند موسى النبي الذي أراد أن يرى الله. وعندما نتذكّر الأيام المبكرة، نجد أننا جميعًا حملنا هذا الحلم: نريد أن نرى الله. لقد كان هذا حلم البشرية، وقد حققه الآب السماوي بأن: "عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ" (1 تي 3: 16).
بشخص ابنه (بنوره الحقيقي)، ظهر الله في الجسد في يسوع المسيح. ومن هنا، فإن الله غير المنظور صار مستعلنًا في ابنه بالتجسد في يسوع المسيح. ولهذا قال الرب لتلاميذه في (يوحنا 14: 9):
"قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنَا مَعَكُمْ زَمَانًا هذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: أَرِنَا الآبَ؟" (يو 14: 9).
لقد طلب فيلبس أن يرى الآب، فكان الرد: "اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ".
تشير الرسالة إلى العبرانيين في (عبرانيين 1: 3) إلى الابن، المسيح:
"الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي،" (عب 1: 3).
•    "بَهَاءُ مَجْدِهِ": تعبير يدل على أن الابن هو الإشعاع والنور الصادر من مجد الآب.
•    "رَسْمُ جَوْهَرِهِ": تعني أنه الصورة الدقيقة والختم المطابق لجوهر الآب.
فلماذا يقول الابن: "من رآني فقد رأى الآب"؟ لأنه أيضًا هو كما في رسالة كولوسي:
"صُورَةُ اللهِ غَيْرِ الْمَنْظُورِ، بِكْرُ كُلِّ خَلِيقَةٍ." (كو 1: 15).
أن تعبير "بكر كل خليقة" يعني أن آدم خُلِق على صورة الله، التي هي يسوع المسيح. بمعنى أن صورة يسوع المسيح كانت موجودة في قصد الله قبل أن يتحقق ذلك فعليًا بالتجسد.

 

مفهوم الصورة الإلهية:
أن الإنسان عنده "كان وأصبح" (أمس واليوم)، بينما الله عنده حاضر دائم؛ ليس تحت الزمان.
كانت صورة الابن (تجسده) في قصد الله، كانت حاضرة عنده، وعلى هذه الصورة خُلِق الإنسان (آدم) وليس العكس.
آدم خُلِق على صورة الله، لكنه ليس هو صورة الله، وأنا وأنت وآدم وكل إنسان نصير على صورة الله بالجهاد الروحي. أما الابن فهو صورة الله غير المنظور أزليًا وجوهريًا.
عندما قال الرب يسوع لفيلبس:
"قَالَ لَهُ يَسُوعُ: أَنَا مَعَكُمْ زَمَانًا هذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ: أَرِنَا الآبَ؟" (يو 14: 9).
الذي رآه فيلبس هو صورة الله غير المنظور (كولوسي 1: 15)، أي:
•    هو صورة طبق الأصل من الآب، ورسم جوهره (عبرانيين 1: 3).
•    الحلم برؤية الله في جوهره قد تحقق في يسوع المسيح، لكن البشر أرادوا أن يروا ذلك بالعين والحواس المادية.
الرغبة في رؤية الله في جوهره مستحيلة للإنسان في حالته الحالية، كما قال الرب لموسى:
"وَقَالَ: «لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي، لأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ»." (خر 33: 20).
في التجّسد، صار الله مُعلنًا بيسوع المسيح. الناس عاينوه، ولكن هذه المعاينة كانت من وراء الجسد البشري الذي أخفى كمال المجد.
لكن بعد القيامة والصعود، تغيّر الموقف:
•    جسد يسوع المسيح قد "تحوّر إلى صورة المجد".
•    لم يعد صورة الجسد البشري العادي، ولا حتى صورة جسد القيامة الأرضي، بل "دخل إلى مجده".
•    الجسد نفسه دخل إلى مجد الآب.
وهذا يعني أننا كنا نرى مجد الآب في وجه يسوع المسيح. 
"لأَنَّ اللهَ الَّذِي قَالَ: «أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ»، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ." (2 كو 4: 6).
لذلك، نحن الآن نرى مجد الله، ولكن ليس جوهره المطلق غير المحدود:
•    لا يمكن رؤية جوهر الله، هذا مستحيل.
•    المتاح هو رؤية الله من خلال يسوع المسيح، الذي جسده نفسه دخل إلى مجده.
•    أصبح الجسد الذي هو الوسيط بيننا وبين الآب السماوي، والآن قد دخل إلى مجده، فلم يعد هنالك وسيط نرى به الله إلا مجده نفسه. "لأَنَّ اللهَ الَّذِي قَالَ: «أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ»، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ." (2 كو 4: 6).

 

المقارنة بين العهدين: موسى، والمؤمنين في المسيح
يُقارن النص بين وضع موسى النبي والبرقع ووضع المؤمنين في المسيح، بناءً على (2 كورنثوس 3: 18):
"وَنَحْنُ جَمِيعًا نَاظِرِينَ مَجْدَ الرَّبِّ بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ، كَمَا في مِرْآةٍ، نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا، مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ، كَمَا مِنَ الرَّبِّ الرُّوحِ." (2 كو 3: 18).

في العهد القديم، كانت رؤية النبي موسى محدودة، كان يضع البرقع على وجهه بسبب مجد الرب، كما أنه اشتهى أن يرى الله بوجهه (خروج 33: 18) ولكن لم يتمكن من ذلك (خروج 33: 20). في المقابل، نجد المؤمنين في العهد الجديد يتمتعون برؤية مختلفة تمامًا، فهم ينظرون إلى مجد الرب "بِوَجْهٍ مَكْشُوفٍ" أي بلا حاجز أو برقع. أما عن الامتياز، فبينما اشتهى موسى الرؤية، أصبح المؤمنون في المسيح اليوم قادرين على أن ينظروا مجد الله في وجه يسوع المسيح، وهي نعمة وامتياز فائق مُتاح للمؤمنين بيسوع.

أكد الرب يسوع على هذا الامتياز لتلاميذه:
"وَلكِنْ طُوبَى لِعُيُونِكُمْ لأَنَّهَا تُبْصِرُ، وَلآذَانِكُمْ لأَنَّهَا تَسْمَعُ. فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ وَأَبْرَارًا كَثِيرِينَ اشْتَهَوْا أَنْ يَرَوْا مَا أَنْتُمْ تَرَوْنَ وَلَمْ يَرَوْا، وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَمْ يَسْمَعُوا." (مت 13: 16-17).
لقد أصبحت عيون المؤمنين قادرة على إبصار مجد الله في وجه يسوع المسيح فلم يعد هناك حاجز بيننا وبينه.
التعبير اللاهوتي "كَمَا في مِرْآةٍ" يعني عملية روحية متكاملة لها جانبان:
1.    التحوّل الشخصي:
•    عندما ننظُر إلى مجد الآب في وجه يسوع المسيح (بالعين المفتوحة والوجه المكشوف).
•    فإننا "نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا" (صورة المجد).
•    هذا التحوّل مستمر: "مِنْ مَجْدٍ إِلَى مَجْدٍ"، وهو عمل "الرَّبِّ الرُّوحِ".

2.    انعكاس المجد للآخرين (الشهادة):
•    عندما نتغير إلى صورة المجد، نبدأ نعكس هذا المجد.
•    عندئذٍ، يستطيع العالم أن يرى الآب في وجه يسوع المسيح... في وجهي أنا الإنسان.
•    يرى العالم يسوع ويعرفه من خلال الإنسان المؤمن.
الرب يسوع قال لتلاميذه: "بَعْدَ قَلِيل لاَ يَرَانِي الْعَالَمُ أَيْضًا، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَرَوْنَنِي. إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ." (يو 14: 19).
•    رؤية وجه يسوع المسيح هي قوة تغيير، وهي مصدر حياة.
•    الرؤية من ناحية تُغيرني إلى صورة يسوع، ومن ناحية أخرى تعكس صورة يسوع فيّ للعالم.

 

الرؤية اللاهوتية مقابل الخبر 
يعتمد المبشرون المعاصرون على النص: "إِذًا الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ." (رو 10: 17).
المنهج المتبع يُبشَّر بيسوع المسيح بالخبر (الذي يتم بكلمة الله). والنتيجة المترتبة: نشأت أجيال "تؤمن بناء على الخبر"، أي أن إيمانها مؤسس على أنها أُخبِرت عن يسوع المسيح، لكنها لم تُبصره بالرؤية الروحية ولم تُطبع فيها صورته.
الخطر يكمن في اعتماد المبشرين على الكلمة والخبر فقط، وإهمال تحقيق المبدأ العميق الذي هو طبع لصورة يسوع المسيح وانعكاس هذه الصورة للآخرين.

تتجسد الكنيسة في نموذجين أساسيين يحددان طبيعة عملها والبشارة التي تحملها. النموذج الأول هو "الكنيسة التي تعكس الصورة"؛ هذا النموذج يستلم المجد، ويشخص فيه، ويتغير إلى تلك الصورة عينها (صورة المسيح)، لتصبح "كما في مرآة" تعكس مجد الرب وتطبع هذه الصورة في الآخرين. في هذا السياق، تكون البشارة هي تسليم الصورة (يسوع المسيح)، حيث لا يمكن تسليم المسيح للآخرين ما لم يكن المؤمن قد استلمه وشخص إليه وتغير. على النقيض، يُمثل النموذج الثاني "الكنيسة التي تأسست على الخبر"؛ هذه الكنيسة أُخبِرت خبرًا عن يسوع المسيح وتؤسس إيمانها على هذا الخبر الذي سمعته، ولذلك فإن البشارة لديها هي ببساطة الإخبار بالخبر الذي سمعته.

إن القدرة على رؤية الله ومعرفته هي علاقة خصوصية محصورة بين الآب والابن، لكنها تُمنح للمؤمنين بالإعلان، فهذا هو الفرق بين الإيمان المؤسس على الإخبار، ورؤيا وطبع لصورة يسوع المسيح وانعكاس لهذه الرؤية ولهذه الصورة للآخرين. فنحن نُسلم الصورة، نُسلم يسوع المسيح. ومن غير الممكن أن نُسلم يسوع المسيح للآخرين إلا عندما نستلم نحن يسوع المسيح، ومن غير الممكن أن نعكس صورة يسوع المسيح، إلا عندما ننظر صورة يسوع ونتغير إلى تلك الصورة عينها.
"اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ." (يو 1: 18).
"لَيْسَ أَنَّ أَحَدًا رَأَى الآبَ إِلاَّ الَّذِي مِنَ اللهِ. هذَا قَدْ رَأَى الآبَ." (يو 6: 46).
"كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الابْنَ إِلاَّ الآبُ، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الابْنُ وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ." (مت 11: 27).

معرفة الابن للآب هي علاقة خصوصية التي هي "أَنَا أَعْرِفُهُ لأَنِّي مِنْهُ، وَهُوَ أَرْسَلَنِي" (يو 7: 29).
المؤمن يستلم هذه المعرفة: الابن يُعلن هذه المعرفة وهذه العلاقة الخاصة للمؤمن، ليس بناءً على كون المؤمن "هو منه" طبيعيًا، بل من خلال منح المؤمن هذا الإعلان: "وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ."
هذا الإعلان هو جوهر التبني:
•    التبني ليس مجرد "أن الآب خلع على المؤمن شرف الأبوة" (مثل أن يُسجَّل طفل متبنى باسم أب جديد لكن الجينات تبقى مختلفة).
•    التبني الحقيقي يتم بالإعلان، حيث يُعلن الابن نفسه وأبوه الصالح من خلاله للمؤمن، فيستلم المؤمن هذه المعرفة والشركة والعلاقة والوحدة من خلال يسوع المسيح.
السر والإعلان الذي يدور حوله الموضوع: الرغبة في رؤية الله تتحقق في رؤية الابن والإيمان به: "لأَنَّ هذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى الابْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ." (يو 6: 40).
فماذا يعني " يَرَى الابْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ"؟

 

المرحلة الأولى: رؤية الابن والإيمان به (الإعلان للإيمان)
عندما كان يسوع المسيح حاضرًا، كانت الرؤية المادية مقتصرة على:
•    رؤية ابن الإنسان (الجسد المنظور).
•    عدم رؤية ابن الله (الجوهر اللاهوتي).
الاعتراف بأن يسوع هو الرب هو اعتراف يتجاوز الإدراك الحسي، وهو إعلان إلهي:
"وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَسُوعُ رَبٌّ» إِلاَّ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ." (1 كو 12: 3).
فهذا المستوى من الإعلان الذي هو إعلان أن يسوع المسيح هو ابن الله الذي يفعله الروح القدس والذي يظهر في أعماله: "أظهر مجده فآمن به تلاميذه" "هذِهِ بِدَايَةُ الآيَاتِ فَعَلَهَا يَسُوعُ فِي قَانَا الْجَلِيلِ، وَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، فَآمَنَ بِهِ تَلاَمِيذُهُ." (يو 2: 11).
هذه المرحلة تُسمى مستوى الإعلان للإيمان: "لأَنَّ هذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى الابْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ»." (يو 6: 40).
•    المفتاح لرؤية الابن: الشوق والرغبة
•    طلب الرؤية: السبب في عدم رؤية "الابن" هو عدم طلب رؤية الابن.
•    الشوق يقود للإعلان: الشوق والرغبة للمعرفة، أي معرفة الحق، هي التي توصل الإنسان للحق.
•    التجربة الشخصية: هناك قصص عديدة لأشخاص لم يولدوا مسيحيين وطلبوا بصدق من الله: "أعلن لي ذاتك إذا كنت أنت هو."
•    النتيجة: هذا الشوق يمنح الإنسان الامتياز بأن الروح القدس يُعلن له الابن.

 

المرحلة الثانية: الإعلان للمحبة والوحدة (إظهار الذات)
يوضح الرب يسوع المسيح أن الانتقال إلى المستوى الثاني من المعرفة مرتبط بالطاعة والمحبة:
"اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي، وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي." (يو 14: 21).
"اَلَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي" (يو 14: 21)
تختلف عن محبة الله العامة للعالم:
•    المحبة العامة: "هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ..." (يو 3: 16).
•    المحبة الخاصة: هي محبة تقديرية. الآب يُقدِّر تعب المؤمن وسعيه للمعرفة والطاعة بعد الإيمان، "وله أُظهِر ذاتي"
بعد الإيمان وقبول الابن (المرحلة الأولى)، تأتي هذه الخطوة التالية:
•    حلول المسيح (المرحلة 1): المؤمن يقبل يسوع المسيح لكي "يحل المسيح بالإيمان في قلوبكم" (أف 3: 17). وهذه هي المرحلة الأولية وليست نهاية الطريق.
•    إظهار الذات (المرحلة 2): عندما يكمل المؤمن طاعة الوصية ويبرهن على محبته، يقوم الابن بـ "أُظهِرُ لَهُ ذَاتِي".
•    مستوى المعرفة: هذا هو الاختبار الثاني، حيث تنفتح العين الداخلية الروحية (وليس العين الجسدية)، ويكشف الابن عن نفسه ليُدخل المؤمن في مستوى ثانٍ من المعرفة والرؤية والإعلان.
هذا الإظهار هو تحقيق للجزء الأخير من الآية: "وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ" (مت 11: 27). الإعلان هنا يتم بفضل إرادة الابن تجاه الساعين إليه بالمحبة الطائعة.

 

المرحلة الثالثة: الرؤية الطوباوية (المعاينة)
أن الفارق بين المرحلتين السابقتين يكمن في درجة الإعلان ومستوى الرؤية والمعرفة.

تتطور الرؤية والمعرفة الروحية للمؤمن عبر مرحلتين أساسيتين: تبدأ المرحلة الأولى بمستوى بدائي، وهو في جوهره إعلان باطني أساسي، كما تشير الآية "وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَسُوعُ رَبٌّ» إِلاَّ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ" (1 كو 12: 3)، ويتجلى الهدف من هذه الرؤية المبدئية في الوعد: "كُلَّ مَنْ يَرَى الابْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ" (يو 6: 40). أما المرحلة الثانية، فتمثل مستوى أكثر عمقًا، وهي مشروطة بـحفظ الوصية والمحبة الطائعة، حيث يكون الامتياز فيها هو الوعد الإلهي: "أُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي" (يو 14: 21)، مما يدل على نمو العلاقة والمعرفة إلى مستوى شخصي وأعمق.

المستوى الثالث: المعاينة (الرؤية الطوباوية)، هذا المستوى هو الأعمق ويخبرنا عنه سفر أعمال الرسل (22: 12-15) مثال بولس بعد شفائه:
"ثُمَّ إِنَّ حَنَانِيَّا رَجُلًا تَقِيًّا حَسَبَ النَّامُوسِ، وَمَشْهُودًا لَهُ مِنْ جَمِيعِ الْيَهُودِ السُّكَّانِ أَتَى إِلَيَّ، وَوَقَفَ وَقَالَ لِي: أَيُّهَا الأَخُ شَاوُلُ، أَبْصِرْ! فَفِي تِلْكَ السَّاعَةِ نَظَرْتُ إِلَيْهِ،" (أع 22: 12-13). 
الامتياز هنا أنه أبصر برؤية العين: "تُبْصِرَ الْبَارَّ" و "تَسْمَعَ صَوْتًا مِنْ فَمِهِ" و "تَعْلَمَ مَشِيئَتَهُ".
هذا المستوى هو تحقيق لوعد التطويبات: "طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ." (مت 5: 8). يأخذك إلى المعاينة (الرؤية الطوباوية/العقلية).

 

مفهوم الرؤية العقلية (الرؤية الطوباوية)
الرؤية في هذه المرحلة ليست رؤية جسدية أو حسية:

تختلف عملية الرؤية المادية جذريًا عن الرؤية العقلية (الروحية). ففي الرؤية المادية، تعمل العين كعدسة تنقل الصورة إلى الشبكية والمخ، ويمكن تشبيه المخ هنا بمثابة الهارد وير الذي يعالج البيانات الحسية. أما في المقابل، فإن الرؤية العقلية (الروح) تتميز بكونها ترى مباشرة، حيث أن القوة العاقلة في الروح هي التي ترى مباشرة. يمكن النظر إلى الروح هنا بمثابة السوفت وير الذي يمكّن من رؤية مجد الله بدون الحاجة إلى العين أو المخ، لأن هذه الرؤية الروحية تتجه مباشرة إلى مركز العقل والحكمة دون وساطة الحواس المادية.

توضيح بتبسيط مادي:
الآن أنا أبصر بعيني. كيف أبصر؟ أن الضوء، يقع على الأشياء وينعكس على عيني. فعيني هي عدسة. عيني ليست أداة رؤية، بل عدسة تعكس أو تنقل الصورة التي رأتها هذه العدسة للشبكية، اللي بدورها تنقلها للمخ، فالذي يرى هو المخ. فهذه هي الرؤية المادية. 
فعندما أخرج من الجسد فسأترك هذا المخ مع الجسد، فكيف ترى الروح؟ الروح هي القوة العاقلة التي في داخلي، هي السوفت وير الذي استخدم المخ باعتباره هو الهارد وير. فلهذا أنا أستطيع أن أرى بدون العين ولا المخ، من خلال أن تذهب الرؤية مباشرة للروح، على مركز العقل والحكمة.
أنت ترى مجد الله في وجه يسوع المسيح رؤية الروح. فالآن ليس هناك إشارة ولا مخ. بل هناك رؤية أشياء ليست مادية، مجد الله. فالإبصار هنا أو البصيرة هي القوة العاقلة التي هي الروح. فالروح ترى مجد الله. 

 

التحول من رؤية الجسد إلى رؤية المجد
يجب التحرر من التخيلات المادية للرب يسوع:
•    يجب ألا يذهب التفكير إلى تخيل صورة يسوع في الجليل والناصرة، لأن تلك الصورة قد تغيرت ودخلت إلى مجدها.
•    القاعدة الجديدة: "وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا الْمَسِيحَ حَسَبَ الْجَسَدِ، لكِنِ الآنَ لاَ نَعْرِفُهُ بَعْدُ." (2 كو 5: 16).
•    المفتاح الجديد: "الآن نحن نعرفه حسب المجد، الآن نحن نأخذه حسب المجد، الآن نحن نراه بحسب المجد، الآن نحن نتحد به بحسب المجد."
هذا الإبصار هو بصيرة القوة العاقلة التي في الروح، فالروح ترى المجد.
الرؤى التي يرى فيها البعض يسوع في شكل إنسان يلبس ملابس بيضاء هي رؤى وأحلام (أع 2: 17)، وليست هي المعاينة التي نقصدها، التي تتم بالعقل (القوة العاقلة في الروح) وليس المخ (الغدة المادية).

 

ثمار المعاينة ونعمة الاتحاد (الرؤية الطوباوية)
عندما يعاين المؤمن المجد بـالرؤية العقلية (الروحية)، تترتب على ذلك أربع علامات فورية:
1.    الحضرة الإلهية: الدخول في الحضرة الإلهية والغمر بـالحضور الإلهي.
2.    الغمر بالحب: الشعور بالغمر بـالحب الإلهي.
3.    الغمر بالفرح: الشعور بالغمر بـالفرح الإلهي وسلامه.
4.    البصيرة والمعرفة: كل المستغلقات تُعرَف (وليست مجرد "تُفهم"). الانتقال من "بصيرة لمعرفة الحق" إلى "معرفة الحق" ذاته، من خلال رؤية مجده.
النتيجة الكبرى: كل هذا يؤدي إلى نعمة الاتحاد.
المجد يقود إلى الوحدة (يوحنا 17: 22-23): يُعطي الرب يسوع المجد لتلاميذه (وللمؤمنين) لكي يدخلوا في وحدة معًا ومع الثالوث الأقدس:
"وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ. أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ، وَلِيَعْلَمَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي، وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي." (يو 17: 22-23).
استمرارية المعرفة وانتقال حب الثالوث (يوحنا 17: 26): هذه المعرفة ليست مؤقتة، بل أبدية وممتدة، وتقود إلى سكنى المسيح:
"وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ، لِيَكُونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ، وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ»." (يو 17: 26).
معرفة أبدية: معرفة الآب لا تنتهي أبدًا؛ لا يمكن الإحاطة به، فالمعرفة هنا ليست معرفة سطحية بسيطة، ولكن المؤمن يستمر في هذه المعرفة إلى الأبد.
المجد والمعرفة والحب:
1.    المجد (الذي أعطانا إياه) أن يعرفنا اسم الآب/شخصه.
2.    كلما امتلائنا من المعرفة، يصير فينا الحب الذي أحب الآب به الابن (الحب الذي داخل الثالوث نفسه).
3.    النتيجة النهائية هي: "وَأَكُونَ – أي شخصه المبارك – أَنَا فِيهِمْ."
الوصول إلى هذه النقطة هو العرس والاتحاد الروحي.
المؤمنون الذين يصلون إلى نعمة الرؤية الطوباوية يختبرون العرس الآتي ويختبرون الاتحاد بطريقة باكورية (أي كبداية وطعم لما سيأتي في الأبدية).
ولفهم أعمق للمفاهيم اللاهوتية الصعبة يمكن الرجوع إلى: 
•    كتاب "حياة الصلاة الأرثوذكسية".
•    كتابات أبونا متى المسكين عن الرؤية الإلهية.
•    أقوال الآباء التي نقلها أبونا متى المسكين.

 

إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ 
التساؤل: كيف يمكنني أنا، الإنسان الطبيعي ذو المسؤوليات المادية، أن أصل إلى هذه الاختبارات الروحية العالية والعميقة التي يتكلم عنها رجال الدين المتفرغون؟
الإجابة: الرجاء في استعلان المسيح (1 يو 3: 2)
"أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، الآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ اللهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ." (1 يو 3: 2).
•    ظهور المجد: ابن الله سيُظهر في مجده، و "ستراه كل عين".
•    الرؤية المباشرة: ستكون الرؤية "عينًا لعين" (مشابهة لرؤية بطرس له بعد الإنكار)، مما يجعل البعض يخجلون منه في مجيئه (1 يو 2: 28). 
•    التحول الكامل: المنتظرون والمكملون لجهادهم، بمجرد أن يروه "عينًا لعين" في لحظة في طرفة عين، "فِي لَحْظَةٍ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، عِنْدَ الْبُوقِ الأَخِيرِ. فَإِنَّهُ سَيُبَوَّقُ، فَيُقَامُ الأَمْوَاتُ عَدِيمِي فَسَادٍ، وَنَحْنُ نَتَغَيَّرُ." (1 كو 15: 52). سوف: "نَتَغَيَّرُ إِلَى تِلْكَ الصُّورَةِ عَيْنِهَا." (1 كو 15: 52). فهذا استعلان فريد من نوعه في مجيء الرب الثاني، لذلك قال بطرس الرسول: "لِذلِكَ مَنْطِقُوا أَحْقَاءَ ذِهْنِكُمْ صَاحِينَ، فَأَلْقُوا رَجَاءَكُمْ بِالتَّمَامِ عَلَى النِّعْمَةِ الَّتِي يُؤْتَى بِهَا إِلَيْكُمْ عِنْدَ اسْتِعْلاَنِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ." (1 بط 1: 13).
إذا ففي استعلان يسوع المسيح في نعمة مميزة، والمجد الذي يفيض من المسيح في مجيئه سيعمل كعطية مجانية ستغير المؤمنين إلى صورة جسد مجده.
القاسم المشترك في كل مراحل الرؤية والإعلان هو: الرؤية التي يُعلن فيها المسيح عن نفسه ويعرفني وأنا أعرفه.

تمر الرؤية الروحية والمعرفة المسيحية بأربعة مستويات متصاعدة، يقود كل منها إلى نتيجة أعمق. يبدأ المستوى الأول عندما يرى المؤمن الابن بالروح القدس، وتكون نتيجته هي الإعلان بأن يسوع هو الابن، وهو الإعلان الأساسي للإيمان. ثم يرتقي المؤمن إلى المستوى الثاني، حيث يقوم الابن بإعلان ذاته له، مما يؤدي إلى رؤية وإعلان أعمق يُعبّر عنها بقوله: "أُظهر له ذاتي". بعد ذلك، يأتي المستوى الثالث، وهو المعاينة الباكورية (الرؤية الطوباوية)، التي تُثمر عن اختبار الاتحاد في الحياة الحاضرة. وأخيرًا، يبلغ هذا المسار ذروته عند المجيء الثاني للمسيح، حيث تكون الآلية هي رؤيته في مجده، والنتيجة هي تحول نهائي كامل للمؤمنين وخطفهم لملاقاة الرب في الفضاء.

الذي ذكرته الآن بنعمة المسيح هو حق، واختبار اجتازه رجال الله القديسين وكتبوا عنه. وإذا أردت أن ألخص الموضوع سوف ألخصه في: "الذي يحبني يحفظ وصاياي".
"اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي، وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي." (يو 14: 21).
النتيجة المشجعة: إذا حفظ الإنسان وصية الإنجيل بأمانة، فإنه سيصل إلى نفس المصير الروحي لمن عرفوا كل التعاليم اللاهوتية العميقة.
أما الآن فلتكن محبة الله الآب ونعمة ابنه الوحيد يسوع المسيح ربنا وشركة وفرح الروح القدس تكون وتدوم مع جميعكم في المسيح يسوع. آمين.

 

عنوان المحاضرة القادمة "شهادة الأعمال"

Powered By GSTV