خبز الحياة: قراءة في إنجيل يوحنا الإصحاح السادس والمقارنة بالقداس الإلهي
باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد الذي له كل المجد إلى الأبد، آمين. أهلاً بكم أيها الأحباء في كورس "في البدء كان الكلمة"، وهو قراءة متأنية في إنجيل القديس يوحنا. هذه هي المحاضرة الرابعة عشر من سلسلة هذه المحاضرات وموضوعها "خبز الحياة".
سنعتمد في قراءتنا في هذه المحاضرة على المقارنة بين الإصحاح السادس من إنجيل يوحنا والقداس الإلهي، النسخة الأساسية أو أساسيات القداس الإلهي في كل الكنائس الأرثوذكسية.
أقسام القداس الإلهي والعناصر الأساسية قبل الأنافورة
بدايةً، القداس ينقسم إلى قداسين: "قداس الموعوظين" أو "قداس الكلمة"، و"قداس المؤمنين" أو "الأنافورة".
قداس الموعوظين (قداس الكلمة)
يبدأ قداس الموعوظين من بداية تقديم الحمل، وطبعًا صلاة الشكر، والقراءات والعظة. تشمل القراءات رسائل الرسول بولس، والرسائل الجامعة، وأعمال الرسل، ومن الإنجيل، ثم تتبعها العظة.
عناصر مهمة قبل صلاة الصلح
بعد العظة، ننتقل إلى صلاة الصلح. لكن قبل صلاة الصلح، هناك أمران أساسيان:
1. "قانون الإيمان": حيث يقوم الشماس بإحضار وعاء كبير ويقدمه للكاهن أو الأسقف الذي يقود الصلاة، والذي يغسل يديه وينثر الماء. هنا يكمن معنى بأن هذا يحدث وقت قانون الإيمان ليكون علامة وشهادة للجميع بأن من ينكر هذا الإيمان أو يجحده، فالكاهن بريء من دمه ومسؤوليته، وذلك بغسل يديه كإنذار وتحذير.
2. "القبلة المقدسة": "قبلوا بعضكم بعضًا بقبلة مقدسة". هذا النص موجود في جميع قداسات العالم، في الكنيسة اللوثرية والكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية، لِقِدَمِه قدم المسيحية. وقد ذكر الرسول بولس هذا النص إحدى عشرة مرة في رسائله: "سَلِّمُوا بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِقُبْلَةٍ مُقَدَّسَةٍ" (2 كو 13: 12). جوهر القبلة المقدسة ليس شكل القبلة، بل الجوهر الذي وراءها وهو “المحبة والمصالحة”. فلا يجوز التقدم لمائدة الرب والمؤمن في خصام مع أخيه. يقول الكتاب: "فَاتْرُكْ هُنَاكَ قُرْبَانَكَ قُدَّامَ الْمَذْبَحِ، وَاذْهَبْ أَوَّلًا اصْطَلِحْ مَعَ أَخِيكَ، وَحِينَئِذٍ تَعَالَ وَقَدِّمْ قُرْبَانَكَ" (مت 5: 24). "وَأَمَّا مَنْ يُبْغِضُ أَخَاهُ فَهُوَ فِي الظُّلْمَةِ، وَفِي الظُّلْمَةِ يَسْلُكُ، وَلاَ يَعْلَمُ أَيْنَ يَمْضِي، لأَنَّ الظُّلْمَةَ أَعْمَتْ عَيْنَيْهِ." (1 يو 2: 11). هذه القبلة هي "قبلة المحبة والمصالحة، وهي جواز المرور إلى القداس".
الإيمان والمصالحة: بوابة الدخول إلى الشركة
القداس يبدأ بخدمة الكلمة، ثم ينتقل إلى البوابة التي تدخل منها، وهي عبارة عن أمرين: "الإيمان والمصالحة".
"الإيمان": وهو قانون الإيمان، الإيمان بالآب والابن والروح القدس، بأن الابن أُرسِل ونزل وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء. هذا ليس إيمانًا شخصيًا، بل إيمان الكنيسة، إيمان الجماعة التي يدخل الفرد في الشركة معها.
"المصالحة": لا يمكن الدخول إلى الشركة بدون إيمان ومصالحة. لذلك، الكنيسة لا تقدم جسد الرب ودمه إلا لمن هم في الإيمان وفي المحبة.
سلطان الكاهن: خدمة الأسرار والسلطان تنظيمي
يشرح نص يوحنا 20: 23 حيث قال الرب لتلاميذه: "مَنْ غَفَرْتُمْ خَطَايَاهُ تُغْفَرُ لَهُ، وَمَنْ أَمْسَكْتُمْ خَطَايَاهُ أُمْسِكَتْ." (يو 20: 23). وقد شرح القديس كيرلس عمود الدين هذا النص، وذلك بخلاف بعض الأقاويل غير المسيحية التي تفيد بأن الكاهن وحده يغفر الخطايا، بأن الكاهن "خادم للأسرار".
"دور الكاهن": يمنع الأسرار عن غير المعمدين (بناءً على فكرة الإيمان)، وعمن سلّم نفسه للخطية. ويذكر مثال زاني كورنثوس الذي "يُسَلَّمَ لِلشَّيْطَانِ لِهَلاَكِ الْجَسَدِ، لِكَيْ تَخْلُصَ الرُّوحُ فِي يَوْمِ الرَّبِّ يَسُوعَ" (1 كو 5: 5).
"سلطان تنظيمي إداري": السلطان المذكور في (يو 20: 23) هو سلطان "تنظيمي إداري". أي السماح بالدخول إلى شركة جسد الرب ودمه لنوال الغفران، أو المنع منهم إن كان الشخص يعيش في الخطية أو لم يتم تعميده.
خروج الموعوظين وانتهاء قداس الكلمة
بعد صلاة الصلح، التي هي آخر قداس الكلمة، يخرج جميع الموعوظين والذين عليهم أحكام من التائبين، وغير المؤمنين الذين لن يشتركوا في شركة جسد الرب ودمه. يقوم الإيبودياكونيون (الشمامسة المساعدون) بإغلاق الأبواب وحراستها.
"تكرار صلاة الصلح": الكلام الموجود في صلاة الصلح يعاد في الأنافورة لأن الأول خاص بقداس الكلمة للموعوظين، والثاني بتفصيل أكبر في قداس الأنافورة قبل "أخذ خبزًا وشكر وبارك".
أهمية قداس الكلمة والقطمارس
أن بعض الكنائس كانت تقيم القداس بلا عظة، بسبب عدم تأهيل الكهنة لخدمة الكلمة. إلا أنه لا يمكن الاحتفال بقداس الأنافورة بدون الاحتفال بقداس الكلمة.
“دور القراءات”: الطقس الذي احتفظ بالقراءات كان دعامة قوية حافظت على الكنيسة في أوقات الضعف. فحتى لو لم يسمع المؤمن عظة، فإنه يسمع أربع اقتباسات من العهد الجديد وجزءًا من المزامير. المواظبة على الكنيسة تمكّن الشخص من قراءة العهد الجديد تقريبًا من خلال هذه الاقتباسات.
"القطمارس": الكتاب الذي تُقرأ منه هذه القراءات اسمه "القطمارس"، وهي تعريب للكلمة القبطية "كاتاميروس" التي تعني "النصيب المجزأ لكل يوم". وقد قُسِّمت القراءات على السنة لتُعلِّم الموعوظين بشكل خاص، وحتى البسطاء الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، بحيث يتعلمون من الإنجيل بحضور الكنيسة. قداس الكلمة هو "المدخل لقداس الأنافورة" (صلاة التقديس)، ومن دونه لا يمكن الدخول إلى الأنافورة.
الخلافات اللاهوتية حول "هذا هو جسدي": حركة الإصلاح وإنجيل يوحنا الإصحاح السادس
جذور الخلاف في حركة الإصلاح
"مارتن لوثر ورفاقه": كان مارتن لوثر أستاذ لاهوت متخصصًا في الكتاب المقدس. أما رفاقه في حركة الإصلاح، مثل يوحنا كالفن (محامٍ) وجون داربي (مؤسس جماعة الإخوة وكان محاميًا أيضًا)، فلم يكونوا بالضرورة مثله.
"نظرية "إشباع العدل الإلهي": نشر كالفن وداربي نظرية "إشباع العدل الإلهي" (Satisfaction Theory) التي وضعها أنسلم رئيس أساقفة كانتربري في القرن الثاني عشر، وأعادا صياغتها وسمياها "البديل العقابي" (Penal Substitution). هذه النظرية، التي تُشوِّه الإنجيل بحسب المتحدث، تأسست على فهم للعهد القديم والقضاء.
"مؤتمر ماربورغ": اختلف مارتن لوثر مع رفاقه الثلاثة الأساسيين: كالفن وزوينجلي وملانكثون. في مؤتمر ماربورغ الذي عُقد لتوحيد الحركة، كتب لوثر: "هذا هو جسدي" على المائدة، وأصر على الإيمان الكاثوليكي الموروث بأن هذا هو جسد الرب. بينما أراد رفاقه القول بأنه يرمز لجسد الرب فقط.
"موقف كالفن": في النهاية، قال كالفن "مستيريون" (أي سر)، وأقر بحضور حقيقي للمسيح في سر القربان المقدس.
"نتائج الخلاف": النقاش اشتد، وأصر لوثر على رأيه، مما أدى إلى انشقاق حركة الإصلاح بدل جمعها.
"تفسير يوحنا 6": الكنائس الإصلاحية التي لا تتفق مع رأي لوثر (مثل جون داربي) تقول إن إصحاح يوحنا 6 يتحدث عن "الكلمة" والإيمان بها، وليس عن جسد المسيح. يؤكد المتحدث أن الجزء الأول من النص يتكلم عن الإيمان بالكلمة، لكن الجزء الثاني يتكلم عن: "وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ" (يو 6: 51). لذا، تاريخ الكنيسة مهم لفهم التطورات اللاهوتية.
قراءة وتفسير يوحنا 6: 38-40: مشيئة الآب والإعلان عن الابن
نزول الابن ومشيئة الآب
"لأَنِّي قَدْ نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ، لَيْسَ لأَعْمَلَ مَشِيئَتِي، بَلْ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي. وَهذِهِ مَشِيئَةُ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَانِي لاَ أُتْلِفُ مِنْهُ شَيْئًا، بَلْ أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ. لأَنَّ هذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ الَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى الابْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ". (يوحنا 6: 38-40)
"قوة حدة الإعلان في إنجيل يوحنا": وكيف أن كل فقرة صيغت بعناية من الروح القدس لتنقل الحق كاملًا.
"النزول من السماء": يُطرح السؤال: كيف نزل المسيح من السماء ونحن نعرف أباه وأمه؟ كما في النص: "وَقَالُوا: «أَلَيْسَ هذَا هُوَ يَسُوعَ بْنَ يُوسُفَ، الَّذِي نَحْنُ عَارِفُونَ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ؟ فَكَيْفَ يَقُولُ هذَا: إِنِّي نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ؟»" (يو 6: 42).
"خدمة المسيح: الإعلان لا مجرد الخبر": بعد حركة الإصلاح، أصبح "الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ." (رو 10: 17).
"لَمَّا سَرَّ اللهَ الَّذِي أَفْرَزَنِي مِنْ بَطْنِ أُمِّي، وَدَعَانِي بِنِعْمَتِهِ أَنْ يُعْلِنَ ابْنَهُ فِيَّ لأُبَشِّرَ بِهِ بَيْنَ الأُمَمِ" (غل 1: 15-16). فخدمة المسيح ليست مجرد قول الكلمة التي تخبر عن المسيح، بل هي “إعلان يسوع المسيح”.
الإيمان بالإعلان مقابل الإيمان بالخبر
الفارق بين التسليم الأرثوذكسي والإيمان بالخبر.
"التسليم الأرثوذكسي": هو إعلان قائم على رؤيا، "رأيت الابن". هذه الرؤيا ليست رؤية يسوع الناصري بالعين البشرية، بل هي "رؤية الإعلان".
"دور الآب والروح القدس في الإعلان": الآب هو الذي يُعلن الابن. "لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الابْنَ إِلاَّ الآبُ، وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الابْنُ وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ" (مت 11: 27). الآب يقدم الابن بالروح القدس.
"برهان الإعلان": البرهان هو أعمال الآب التي يعملها الابن، ثم يعملها المؤمنون به: "إِنْ كُنْتُ لَسْتُ أَعْمَلُ أَعْمَالَ أَبِي فَلاَ تُؤْمِنُوا بِي" (يو 10: 37). و"مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضًا" (يو 14: 12). التلاميذ بشروا بيسوع المسيح وبرهنوا بأعمال القوة والسلطان.
"الإيمان بالروح القدس": "لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ: «يَسُوعُ رَبٌّ» إِلاَّ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ" (1 كو 12: 3). فالإيمان الحقيقي الذي تتأسس عليه الشركة والكنيسة هو إعلان الروح القدس للقلوب لترى الابن، وأن يسوع رب وقد نزل من السماء.
عقيدة التجسد في قانون الإيمان
"أَلَيْسَ هذَا هُوَ يَسُوعَ بْنَ يُوسُفَ، الَّذِي نَحْنُ عَارِفُونَ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ؟ فَكَيْفَ يَقُولُ هذَا: إِنِّي نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ؟" (يو 6: 42).
"فهم المسيح كابن الله المتجسد": الإيمان المسيحي الذي أسسه قانون الإيمان هو أن المسيح هو "ابن الله الوحيد المولود من الآب، كل الدهور، الواحد مع الآب في الجوهر". الذي "نزل من السماء، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق". ثم "اتخذ جسدًا من الروح القدس ومن مريم العذراء تأنس".
"رمزية البخور والنار والتجسد": الشماس يقدم المجمرة للكاهن عند قول "اتخذ جسدًا من الروح القدس ومن مريم العذراء". يضع الكاهن البخور في النار، وهذا يربط بين فكرة "اتخذ جسدًا" وفكرة اتحاد الحديد بالنار التي ذكرها القديس كيرلس عمود الدين.
"اتحاد اللاهوت بالناسوت": الابن النازل من السماء، وهو غير مخلوق، نور من نور، إله حق من إله حق، اتخذ جسدًا مخلوقًا. رفض البعض كلمة "مخلوق" عند وصف جسد المسيح يعتبر "أُطاخية". فأن جسد المسيح كان مخلوقًا ليشابهنا في كل شيء، وإلا لم يخلص المخلوقين.
"خبز الله والكلمة والجسد": "لأَنَّ خُبْزَ اللهِ هُوَ النَّازِلُ مِنَ السَّمَاءِ الْوَاهِبُ حَيَاةً لِلْعَالَمِ" (يو 6: 33). هذا الجسد المخلوق المأخوذ من الأرض لا يهب حياة وحده. الذي يهب الحياة هو الكلمة النازل من السماء.
يقول المسيح: "أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ" (يو 6: 51). هذا يوضح أن الكلمة هو الخبز المعطي الحياة.
نسطور والقديس كيرلس عمود الدين: طبيعة التجسد والاتحاد
هرطقة نسطور
هذه الجزئية (يو 6: 51) اصطدم بها نسطور، مما تسبب في فرع اللاهوت المسمى "الكريستولوجي" (علم المسيح).
"فهم نسطور": انتهى نسطور إلى أن العذراء ولدت "إنسان الجسد المخلوق"، وأن الكلمة حل على هذا الجسد في نهر الأردن. فصارت العلاقة بين الكلمة والجسد المولود من العذراء. وقد اعتبر نسطور أن المولود من العذراء صار ابن الله بالتبني، فصار هناك ابنان: الابن الكلمة (النازل من السماء)، والابن المولود من العذراء (يسوع الذي تبناه الآب).
"العلاقة عند نسطور": كانت العلاقة بينهما مثل الثوب الذي يُخلع ويُلبس، أو مرور الماء في الأنبوب، أي علاقة مصاحبة بلا اتحاد.
"اللاهوت لا يؤكل بطبعه": يقول نسطور إن اللاهوت بطبعه لا يؤكل. ولكن المسيح يقول: "أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي" (يو 6: 51).
شرح القديس كيرلس عمود الدين: اتحاد الحديد بالنار
شرح القديس كيرلس عمود الدين المفهوم بمثل "اتحاد الحديد بالنار".
"الاتحاد الجوهري": اللاهوت اتحد بالجسد (المخلوق والزمني) مثل اتحاد الحديد بالنار. لا يستطيع الإنسان أن يأخذ النار مباشرة، ولكنه يستطيع أن يأخذ الخبز (الجسد) المتحد باللاهوت.
"الوسيط": نحن نتحد بالمسيح، الذي هو متحد بالآب ومتحد بجسده. ندخل لهذا الاتحاد من ناحية الجسد الذي يشبهنا في كل شيء. هذا هو معنى كونه "وسيط عهد جديد" (Mediator) هو في النص، نحن ممسكون به من ناحية أجسادنا بجسده، وهو يوصلنا بالآب من ناحية لاهوته.
"الهدف من بذل الجسد": الرابطة المعمولة فيه وحده، حيث صار اتحاد اللاهوت بالناسوت فيه. نحن نتحد بالآب من خلاله، ومن خلال تجسده بجسده. هو يبذل جسده "لأجل حياة العالم"، ليس لمرضاة الآب، بل "ليُبطل الموت ويصنع القيامة".
"جسد القيامة والطبيعة الجديدة": الجسد المبذول لأجل حياة العالم يُبطل الموت ويصنع القيامة والحياة الجديدة. هذا الجسد الممجد هو الذي يوصل المؤمن بالحي النازل من السماء.
القيامة: الهدف الأسمى
القيامة هي الهدف، هي الغاية، هي العطية. الصليب هو الطريق إلى القيامة.
"خطأ كالفن وداربي": يرى المتحدث أن كالفن وجون داربي توقفا عند الصليب. فلو مات المسيح على الصليب ولم يقم، ما كان خلاص قد حدث. لذلك، التلاميذ كانوا يبشرون بالقيامة من الأموات.
"الخبز النازل من السماء": "الحق أقول لكم: من يؤمن بي فله حياة أبدية. أنا هو خبز الحياة. آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا".
المن كان خبزًا مؤقتًا؛ "هذا هو الخبز النازل من السماء لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت" (يو 6: 47-50). القضية هنا هي "القيامة".
"ضرورة جسد المسيح": "أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ" (يو 6: 51).
"لماذا جسدي؟":
1. لأن الإنسان لا يستطيع أن يتحد بالكلمة الأزلي النازل من السماء مباشرة إلا من خلال جسده.
2. هذا الجسد المبذول عن حياة العالم يُبطل الموت بموته، ويقوم ليُظهر القيامة، لِيُمنح المؤمن القيامة والطبيعة الجديدة والحياة الغالبة للموت.
يذكر القديس أثناسيوس في "تجسد الكلمة": "لأنه بذبيحة جسده الذاتي وضع نهاية لناموس الموت... وصنع لنا بداية جديدة للحياة برجاء القيامة". فـ"إِذِ الْمَوْتُ بِإِنْسَانٍ، بِإِنْسَانٍ أَيْضًا قِيَامَةُ الأَمْوَاتِ. لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ، هكَذَا فِي الْمَسِيحِ سَيَحْيَا الْجَمِيعُ" (1 كو 15: 21-22).
لذا، نحن لا نموت كمدانين، بل كأناس يقومون من الموت. موت المؤمن ليس موتًا لعبيد، بل انتقال ينتظر القيامة العامة. هذا هو السبب الأول لتجسد المخلص.
سر القربان المقدس: جسد القيامة الممجد والتحول الروحي
تحول جسد المسيح ودخوله المجد
يقول المسيح: "كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ، وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ، فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي" (يو 6: 57).
"جسد المسيح بعد القيامة": يجب الانتباه إلى أن جسد المسيح الذي أخذه من العذراء وتحور إلى جسد القيامة بعد قيامته من الأموات. هذا الجسد لا يرى الموت بعد، وانتصر على الفساد.
"دخول المجد": "أَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ بِهذَا وَيَدْخُلُ إِلَى مَجْدِهِ؟" (لو 24: 25-26). جسد المسيح دخل إلى كل مجد الآب.
"أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، الآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ اللهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ" (1 يو 3: 2).
"جسد القيامة الممجد": جسد المسيح الآن صار جسد القيامة. تغير وتحور تحورًا جديدًا، واتحد بكل مجد الله، وصار يملأ الكل في السماء وعلى الأرض. "الَّتِي هِيَ جَسَدُهُ، مِلْءُ الَّذِي يَمْلأُ الْكُلَّ فِي الْكُلِّ" (أف 1: 23).
طبيعة التحول في الأسرار
العبارة التي تُردد خطأً في بعض الأحيان "بتحول جسدك المقدس يا رب نؤمن" فهي ليست موجودة في الخولاجي (كتاب صلوات القداس)، بل هي من تأثيرات العصور الوسطى.
"صلاة الكاهن السرية": بعد قول الشماس "اسجدوا لله بخوف ورعدة"، يصلي الكاهن سرًا: "نسألك أيها الرب إلهنا، نحن عبيدك الخطاة غير المستحقين، نسجد لك بمسرة صلاحك، وليحل روحك القدوس علينا". ثم يشير إلى نفسه ثم إلى القرابين، ويكمل: "وعلى هذه القرابين الموضوعة ليطهرها ويحولها ويظهرها قدسًا لقديسيك".
"التحول الروحي: التحول هنا "تحول روحي وليس مادي". هذا التحول الروحي هو إلى "الجسد الممجد الذي حلَّ في الروح القدس". فالروح القدس الذي حل على القرابين حل بجسده الممجد.
الشركة في جسد المسيح
"نحن نشترك في الخبز الواحد". هذا الخبز لم يعد عاديًا لأنه حل فيه وعلينا جسد المسيح الممجد. فصار هذا الخبز بهذا الحلول هو جسد المسيح. هو ليس مجرد خبز، بل هو "شركة جسد المسيح"، وهو الأسلوب الذي به نشترك في جسد المسيح.
نتائج الاشتراك في جسد المسيح: القيامة والثبات والتطهير
"الحياة الأبدية والثبات": "كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ الْحَيُّ، وَأَنَا حَيٌّ بِالآبِ، فَمَنْ يَأْكُلْنِي فَهُوَ يَحْيَا بِي" (يو 6: 57). "إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ، فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ" (يو 6: 53-54).
"لأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَقٌّ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَقٌّ. مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ" (يو 6: 55-56). هذا الثبات هو العلاقة التي شرحها الوسيطية التي تجمعنا به.
جوهر اللاهوت الأرثوذكسي
هذا هو جوهر اللاهوت الأرثوذكسي والإنجيل: "أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ، وَلِيَعْلَمَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي، وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي" (يو 17: 23). وكذلك: "وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ، لِيَكُونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ، وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ" (يو 17: 26). فبدون هذه الشركة، لن يعرف العالم أن الآب أرسل الابن وأحبهم كما أحبه.
القداس وشركة الجسد الواحد
من قداس القديس سيرابيون، وهو من أقدم القداسات، وإبراز معنى الشركة: "وكما تجمعت حبات الحنطة وصارت خبزة واحدة، هكذا فلنصر نحن الكثيرين جسدًا واحدًا، خبزًا واحدًا بنعمة اشتراكنا في الجسد الواحد".
نحن نأتي إلى جسد المسيح الممجد، الملء الذي يملأ الكل في الكل. وهذا الجسد يحل علينا وعلى القرابين. باشتراكنا معًا في هذه القرابين، فإننا نشترك في الخبز الواحد والجسد الواحد. هذا هو “السر والنعمة غير المنظورة” التي يختبرها الجميع. من لا يختبر هذا الحضور والاتحاد، يجب عليه مراجعة نفسه وتوبته ودخوله بالمحبة إلى هذه الشركة.
غفران الخطايا: التطهير لا مجرد الصفح
يعطى هذا الاشتراك خلاصًا وغفرانًا للخطايا. فأن غفران الخطايا ليس مجرد صفح عنها (مفهوم العهد القديم)، بل هو “التطهير من الخطايا” (مفهوم العهد الجديد). فالمؤمن يتطهر وينمو في نعمة الاتحاد والتطهير باستمرار. فغفران الخطايا هو التطهير وليس الصفح.
يُعطى خلاصًا وغفرانًا للخطايا وحياة أبدية لمن يتناول منه، إنه اشتراك في حياة الابن، اشتراك في جسد المسيح الممجد.
لتكن محبة الله الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس مع جميعكم في المسيح يسوع، آمين.
عنوان المحاضرة القادمة "الماء الحي"