رأيٌ في الأحداث (٤١) | السلامُ الدّاخليُّ
Jul 10, 2025 10
980 79

رأيٌ في الأحداث (٤١) | السلامُ الدّاخليُّ

سَعْيُ الإنسانِ للحصولِ على السَّلامِ الداخلي، بدأ منذ وقتٍ مُبكِّرٍ جدًّا في تاريخِ البشريّةِ، حينما اكتشفَ أنَّ سلامَهُ الداخليَّ قد فُقِد، وصار يشعر بالضَّياعِ والخوفِ واضطرابِ العلاقاتِ مع الآخرين. وقد اكتشفَ الإنسانُ أيضًا أنَّ مشكلةَ فقدانِ السَّلامِ الداخليِّ تَنبُعُ من داخله أكثر مما تتأثَّر بما هو خارجَه؛ فداخلُ الإنسانِ —أي فكرُهُ وقلبُهُ— هما اللذان يطفحانِ عليه بأفكارِ القلقِ والغيظِ والغضبِ والخوفِ والانتقامِ والاشتهاء؛ ومن ثمَّ صار جُرحُهُ من داخلِهِ، مُستقرًّا في إرادتِهِ وطموحِهِ ووعيهِ الشخصي، حتى وإن كان هناك آخر قد ألقى بسهمِهِ في قلبِهِ وفكرِهِ ومضى، إلا أنَّ جُرحَهُ العميقَ صار ذاتيَّ الاجترار.
من أبرزِ المحاولاتِ التي سعى الإنسانُ من خلالها للحصولِ على السَّلامِ الداخلي: فكرةُ التأمُّلِ، وهي ببساطةٍ محاولةٌ لفهمِ النفسِ والتصالحِ معها من خلالِ قبولِ الذاتِ من ناحيةٍ، والتفكيرِ العميقِ (أي التأمُّل) الذي يجلبُ سلامًا داخليًا؛ مثل: أن يستغرقَ الإنسانُ في تأمُّلٍ عميقٍ في شجرةٍ أو في زهرةٍ جميلة، وكذلك فكرةُ التركِ والتخلّي عن الاهتماماتِ مع التأمُّلِ فيما هو إيجابي؛ فهذا بلا شك يُريحُ الإنسانَ من الاستغراقِ في همومِهِ وجراحِهِ وشقائِهِ إلى التأمُّلِ والتفكيرِ فيما هو جميل. لكن، هل هذا السَّلامُ الداخليُّ يدوم، أم يُفقَد بالعودةِ إلى الحياةِ والواقعِ؟
جوهرُ رسالةِ الإنجيلِ كما يشرحُها ببساطةٍ ووضوحٍ إنجيلُ يوحنا: أنَّ كلمةَ الآبِ السماويِّ ونورَهُ: قد أتى من السماءِ وظهر في إنسانٍ، حتى أن كلمةَ الآبِ (الذي هو نورُهُ) صار يُمنَحُ لكلِّ إنسانٍ يقبلُهُ بالإيمانِ والمحبّةِ، فيدخلُ إلى قلبِهِ ويستقرُّ فيه. وهنا ببساطةٍ، يدخلُ نورُ الآبِ (الابنُ الكلمةُ) إلى الإنسانِ، فيغسلُ قلبَهُ وفكرَهُ من الجراحِ والخوف، ويحلُّ بفكرِهِ النورانيِّ محلَّ كلِّ الأفكارِ الحزينةِ الجارحةِ المُشقيةِ للإنسانِ والمُسبِّبةِ لاضطرابِ العلاقاتِ البشريّة؛ وهذا ما يُسمِّيهِ الإنجيلُ: تجديدَ طبيعةِ الإنسان.
الفرقُ بين بشارةِ الإنجيلِ وبين كلِّ محاولاتِ الإنسانِ للتصالحِ مع ذاتِهِ والتأمُّلِ للسُّكونِ في العدم: أنَّ بشارةَ الإنجيلِ معناها أنَّ الآبَ السماويَّ قد أرسلَ كلمتَهُ (نورَهُ) إلى الإنسانِ؛ ليَهَبَهُ الفرحَ والأفكارَ النورانيّةَ والحياةَ في ذاتِهِ، وفي داخلِهِ، وفي جوهرِهِ الإنسانيِّ، وليس براحةٍ مؤقّتةٍ تنكسرُ بالعودةِ إلى الواقعِ الإنسانيِّ المجروحِ بالشقاءِ والأحزانِ والآلام.
لا شكَّ أنَّ التأمُّلَ في الوردةِ يطبعُ جمالَ الوردةِ والسُّكونَ في نفسِ الإنسانِ، ولكنَّ السؤالَ الجوهريَّ هو: هل يدومُ سلامُ التأمُّلِ مع الإنسانِ في مواجهةِ مواقِفهِ، أم أنَّهُ سلامٌ مؤقّتٌ ومُسكِّنٌ لا يدومُ؟!
جميعُ الذين اختبروا قَبولًا حقيقيًّا لكلمةِ الآبِ السماويِّ واتحادًا بنورِهِ الحقيقيِّ، قد اختبروا قوّةَ التغييرِ وتجديدَ الطبيعةِ البشريّةِ مع الوجودِ الدائمِ في النورِ: في وقتِ الصلاةِ والتأمُّل، وكذلك عند النزولِ إلى الواقعِ ومواجهةِ صعوباتِ ومعتركاتِ الحياةِ، والخيارُ مطروحٌ بحريةِ الإرادةِ للجميعِ للتجربةِ.
وهذه هي بشارةُ الإنجيلِ: أنَّ الآبَ السماويَّ أعطانا ابنَهُ (نورَهُ وكلمتَهُ) لكي نحيا به ونغلب العالمَ والهمومَ والجراحَ والأحزانَ بالمحبّةِ "بِهذَا أُظْهِرَتْ مَحَبَّةُ اللهِ فِينَا: أَنَّ اللهَ قَدْ أَرْسَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ إِلَى الْعَالَمِ لِكَيْ نَحْيَا بِهِ." (1 يو 4: 9).

بنسلفانيا – أمريكا
٩ يوليو ۲۰۲٥

لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "رأيٌ في الأحداث" اضغط على الرابط التالي:
https://anbamaximus.org/articles/Ra2yFeElahdath

Powered By GSTV