رأي في الأحداث | (٧١) القهرُ الدينيُّ والإلحادُ
Nov 17, 2025 10
980 79

رأي في الأحداث | (٧١) القهرُ الدينيُّ والإلحادُ

حينما شَبَبْنا عن الطوق وبدأنا نتعرّف على العالم، أخبرونا عن الاتحاد السوفيتي الذي كان الرؤساءُ الأمريكيّون يلقبونه "بإمبراطوريّةِ الشرّ"، والاتحادُ السوفيتي كان يضمُّ روسيا الحاليّة وخمسَ عشرةَ جمهوريّةً أخرى ضمن الاتحاد السوفيتي مع هيمنته على دول أوروبا الشرقيّة.
وكان مجلسُ قيادةِ الاتحاد السوفيتي يفرضُ على جمهورياته النظامَ الشيوعيَّ والإلحاد، بالحديدِ والنار وأشكالِ تعذيبٍ وحشيّة، وتغلغلت أجهزةُ استخباراته داخل ما تبقّى من الكنائس حتى سيطرت عليها، وكان الإلحادُ يُدرَّسُ في المدارس ويُعدُّ شرطًا أساسيًّا من شروط الانضمام للحزب الشيوعيّ الحاكم والمهيمن.
انحسرت أعدادُ المؤمنين انحسارًا كبيرًا، وهربَ المؤمنون الحقيقيّون إلى حياة الكنائسِ المختفية، كنائسِ السراديب (الكاتاكومز - Underground Church)، وكان دخولُ الكتابِ المقدّس إلى دول ما وراء "الستار الحديدي" أمرًا صعبًا ومحفوفًا بالمخاطر، وعلى الأقل بالمصادرة.
سقط الاتحادُ السوفيتي وسقطت الشيوعيّة معه، وخلال سنةٍ واحدةٍ أصبح تعداد الكنيسة الأرثوذكسيّة في روسيا 129 مليون نسمة (حسب آخرِ إحصاء)، وكان من العائدين إلى الإيمان الرئيسُ الحالي فلاديمير بوتين: بشهادةٍ صادمةٍ أن القهرَ لم يقدر أن يطفئَ جذوةَ الإيمان.
قرأتُ كتابَ ريتشاد ورمبراند بعنوان "العذابُ الأحمر" عمّا كان يحدث في الاتحاد السوفيتي، وقرأتُ الكثيرَ من القصص عمّا كان يحدث في الصين من اضطهادِ المسيحيّين، وكذلك بلادٌ أُخَر كانت تقتلُ من يُبدِّلُ دينه بدين آخر، وتابعتُ كيف كان وما يزال الإيمان وحرية الإنسان تنموانِ وتتكاثرانِ في تلك البلدان رغم كل أشكالِ القهرِ والظلمِ والقتلِ والطغيان.
كلُّ هذا أتذكره من أيامِ الشباب، أمّا الآن فقد تسببت ثورةُ الاتصالات وانتشارُ المعرفة عبرَ الإنترنت والستالايت والتليفونِ المحمول في كلِّ جيبٍ وحقيبةٍ إلى انتشارٍ هائلٍ للمعرفة، وصارت ملايينُ من الشباب يتحولونَ من إيمانٍ إلى آخر، ومن إلحادٍ إلى إيمانٍ، أو من إيمانٍ إلى إلحادٍ بقاعدةٍ لا تُخطئها العينُ البصيرة: أنه حيثما وُجدَ القهرُ الدينيّ صار بالحتميّة الهروبُ من القهرِ إلى الإلحادِ أو إلى إيمانٍ آخر، وحيثما وُجدَ التشددُ الدينيّ كان بالمقابل الهروبُ إلى إعمالِ العقلِ والبحثِ عن إنسانيّةٍ وكرامةِ الإنسان.
هنالك كثيرٌ من البلدان أدركَ قادتُها هذه القاعدةَ سالفةَ الذكر، وأن الحريةَ هي حياةُ الإنسانِ والشعوب، وأن القهرَ السُلطويَّ أو الدينيَّ يُنشئُ ردّةَ فعلٍ عكسيّةٍ ضدَّ الدينِ والسلطة، وأن الإنسانَ المعاصرَ قد امتلكَ حريتَه ولن يعد يقبلُ بالقهرِ بل بالإقناع، فغيّروا أساليبَ الحكمِ والسياسات القديمة المتّبعة في بلدانهم.
بينما ما يزال آخرون متمسّكين بجوامدِ الموروثاتِ الدينيّة وأفكارِها الماضويّة، أو بأساليب الدولة البوليسيّة ومصادرة الحريات، دون أيِّ استفادةٍ من عبرةِ التاريخ، أمّا الإصرارُ على القهرِ والتخلّف فيُثمرانِ الدمارَ والانفجارَ والثورةَ.
وهذا رأيي في الأحداث.

بنسلفانيا – أمريكا
١٦ نوفمبر ٢٠٢٥

لمتابعة المقالات السابقة من سلسلة مقالات "رأيٌ في الأحداث" اضغط على الرابط التالي:
https://anbamaximus.org/articles/Ra2yFeElahdath

Powered By GSTV